أنسي الحاجأعاد «حزب الله» رسم الخريطة السياسيّة الجغرافيّة بالقوّة لا بالحوار. وإذا جاء وقت الحوار نأمل أن لا يملي المنتصر حواره من فوق. عندئذٍ سيبدأ في الخسارة، ولو كانت غير مرئيّة في البداية.
قلنا في كلمة سابقة إن الشيعة أضاعوا (أو ضُيّعت لهم) الفرصة في عزّ الحرمان ونتمنّى أن لا يعودوا ويضيّعوها وهم في ذروة القوّة. وهذا ما قصدناه. وخصوصاً الشيعة. التجبُّر غريب عنهم، ولا تليق المبالغة في استذكار الحرمان لتبرير الهيمنة والتسلّط. ولا نريد لهم أن تأخذهم نشوات الفوز إلى التيه والتحجّر ولا إلى الظنّ بالقدرة على «تربية» الآخرين. لقد سبق لجميع «الآخرين» أن مرّوا بهذه التجارب فصعدوا ثم هبطوا لأنّهم لم يعرفوا المحافظة على توازنهم الذاتي ولا على موقعهم في إطار مجموعة التوازنات. ونِعْم الهبوط، فهو شرط السلام الأهلي لأنّه يعيدنا إلى التواضع إن تعذّرت المحبّة.
يجب أن يقول كلٌّ منّا، كل لحظة، أيّاً كانت قواه وقوى الحاضنين له: حذارِ أنْ أخلطَ بين القدرة، وهي عابرة، والعدل، وهو الرحمة للجميع.

لا تجوز ممالأة «حزب الله». من مآخذنا على 14 آذار أن متعيّشين كثيرين يداهنون أثرياءها طمعاً بمالهم وبالمال السعودي. يجب أن لا يحمل الخوف ولا المنفعة أحداً على التملّق لـ«حزب الله»، وخصوصاً بعد عرض القوّة الأخير. ويجب أن لا يستدرج مزاج «حزب الله» الآخرين إلى الكذب عليه. كلّما اشتدّ العود تعاظمَ واجب المصارحة. نقول لـ«حزب الله» إن خروجه من ظلال المقاومة إلى وضح نهار السلطة ولو تحت شعار حماية السلاح يُرتّب عليه سماع أصوات العمق اللبناني لا صوت الحاشية المجامِلة. والعمق اللبناني خائف. كان أفضل للجميع لو واجه الحزب قراري الحكومة بأسلوب آخر. قراران لن تستطيع الحكومة تنفيذهما لماذا إقامة الدنيا لإحباطهما وهما محبطان تلقائيّاً؟ وليس في هذه الإشارة تنديد بضعف الحكومة فقط بل استهوال للفرق الذي وصلنا إليه بين سلطة «حزب الله» واضمحلال سلطة الدولة. وليس في هذا كلّه غير مدعاة للهلع. لا أحد يذعن طويلاً للخوف. الخوف من السلطان الفلسطيني ظلّ يتراكم حتّى أوصل اللبنانيين كلّهم، لا أهل الجنوب وحدهم، إلى الترحيب بالإسرائيلي. والخوف، بل الغضب، من القبضة السوريّة أدّى بعد استشهاد الحريري إلى أضخم انفجار شعبي عابر للمناطق في تاريخ لبنان. والخوف من «حزب الله» لن يكون مردوده أفضل بل سيكون أسوأ بكثير لأنّه خوف لبنانيّين من لبنانيّين.

فلنتخيّل رفيق الحريري يردّ بكلمة متلفزة على الحوادث الأخيرة. الأرجح، في ذهننا نحن على الأقلّ، أنه كان سيأخذ الأمر بصدره. ودون تمنين. فلنراجع مواقفه. كنّا نتمنّى على سعد الحريري أن يجبر خواطر النائمين على جراحهم بخطاب يعلو على الجراح. يستنكر ويغفر. الشارع ليس في حاجة إلى حكّ جراحه بل إلى بلسمتها. ما أصاب بيروت أبلغ من أن نبكيه. والزعامة تستوجب الإنقاذ. والإنقاذ تضحية. صدمة بيروت السلبيّة تحتاج إلى صدمة إيجابيّة أكبر منها. صدمة لبنان كله لا بيروت. الجبل الجبّار والشمال الضحيّة الدائمة. ولا حاجة إلى تعداد سائر أشلاء هذا الجسد الذي يستبيحه الصراع الإيراني السوري من جهة، والسعودي الأميركي من جهة أخرى، ولا يحدّثنا أحد عن «العدوّ الإسرائيلي المشترك». لنقل بالأحرى «الحجّة الإسرائيلية المشتركة»، «المشجب الإسرائيلي المشترك»، «الحليف الإسرائيلي المشترك». غداً حين يتعاهد العرب، بمَن فيهم أبطال «الممانعة»(!؟)، مع إسرائيل، هل يتذكّر أحد من المسؤولين اللبنانيين أن عليه مطالبة العرب أيضاً، لا إسرائيل وحدها، بالتعويض على لبنان لقاء استعمالهم إيّاه طوال عقود حيناً كرهينة وحيناً كبديل وحيناً كملعب دماء؟ التعويض على شهدائه وعلى عقوله الممزَّقة بالحروب والترويع وعلى أراضيه المُفْرَغة بالهجرة؟

ومع ذلك على «حزب الله» لا أن يتفهّم مرارة سعد الحريري فقط بل أن يفهمها ويفهم أبعادها قبل فوات الأوان. وأن يبادر إلى مدّ الجسور. وأول جسر هو إنهاء الاعتصام في قلب بيروت. اعتصام فَقَدَ مبرّراته وبعد الحوادث الأخيرة لم يعد له أي معنى. كلّ ما يُفسَّر استفزازاً من أي فريق كان يجب إلغاؤه. لقد أخطأت الحكومة خلال سنواتها في تجاهل مطالب المعارضة كما أخطأت في عدم استثمار الوقت لتأسيس مشروع بناء دولة. اكتفت بالاتكال على دماء الشهداء. وما اتُهمت به عهود المارونيّة السياسيّة من غفلة واستئثار وترك الدولة مغانم للمفترسين لم تفعل سنوات حكومة 14 آذار أفضل منه. فراغ متآكل وانسداد آفاق في مواجهة مشروع سياسي ديني حديدي يواصل تقدّمه بلا هوادة. دعم دولي وعربي لا مثيل له لسلطة بلا مشروع سياسي. سلطة عمّدها دم الشهداء وتأييد قواعد شعبية ضخمة ووقعت في الانقسام الداخلي، أيّاً تكن تحريضاته السورية والإيرانية. وقعت ولم تعرف أن تقوم.
لا أحد يُنزّه 8 آذار. ولكن لا أحد يستطيع أن يُنكر كون السلطة فوّتت فرصة تاريخيّة لإرساء مشروع بناء دولة لا يعود ممكناً في ظلّها رَهْن لبنان لسوريا وإيران ولا حتّى لأميركا، ولا ممكناً تلزيم حماية لبنان من إسرائيل لطائفة أو حزب، وقبلها إجبار طائفة أو حزب تحت وابل الاضطهاد على الاحتماء بإسرائيل.

انتهت؟ مجرّد هدنة؟ ودوماً لغز وليد جنبلاط. رَفْضُه للقتال. حماقة استفزاز الدروز من خلال الاستقواء على جنبلاط. جهل التاريخ. جهل خصائص النسيج اللبناني المتعدّد. التوهّم أن القوّة، قوّة العدد، قوّة السلاح، قوّة الدعم، ترجّح الكفّة. القراءة في ذهن جنبلاط، اليوم خصوصاً، مصباح كاشف. وإذا قُيّض له المضيّ بموقفه اللاعنفي، حريّ بالجميع التأمّل فيه. حريّ بالمنتصرين أوّلاً، إذا سلّمنا بأن أحداً ينتصر ويستطيع أن يظلّ منتصراً في لبنان.

نردّد ما نقوله دائماً: في بلد تستطيع جارتاه (وخصوصاً سوريا) أن تتجاذباه ساعة تريدان، يصبح وجود آباء عطوفين حكماء في مناصب المسؤولية سواء داخل الحكم وخارجه واجباً حيويّاً وحتميّاً. ليته كان بالإمكان وضع مثل هذا الشرط في قانون الانتخابات النيابيّة وفي رأس شروط وصول الرؤساء الثلاثة إلى كراسيهم. لبنان بحاجة إلى رحماء يقودونه لا إلى جبابرة يطحنون الجماجم.
مجرد علاقة بين شخصين لا تقوم بغير مزايدة في التحابّ. العلاقات بين مكوّنات المجتمع تُساس بالنُبل والمروءة والتضحية والتنازل، والخوف على حياة الناس. وخصوصاً الخوف على حياة الناس. لا أحد بين الزعماء يخاف على حياة الناس.

... والآن، آخر ساعة، نجحت قطر.
الحمد لله!
وباسم الله الرحمن الرحيم، كما استهلَّ رئيس الوزراء القطري بيانه إلى اللبنانيين!
ما السرّ الذي جعل دولة قطر تنجح ولا ينجح مسعى لبناني ـــــ لبناني؟ هل لأن قطر تُوفّق، بسحرها العجيب، بين صداقة سوريا وإسرائيل؟ وبين «القاعدة» الإسلامية والقاعدة الأميركية؟ وبين إيران والخليج؟ وهل المطلوب استنساخ هذا الوضع في لبنان؟ ومَن الطالب؟
نتمنّى أن يكون حظّ اتفاق الدوحة المقبل أفضل من حظّ اتفاق الطائف، وأن لا يكون الأمر مجرد «مناوبة» بين السعوديّة وقطر على خلافة النفوذ في «الساحة اللبنانيّة».

كان الأفضل أن تأتي المبادرة من «حزب الله» فيصافح ويصالح ويعطي ويأخذ. كان الأفضل أن يُسارع الأقوى إلى التنازل عوض الاحتكام إلى الآخرين. من لقاءات سويسرا إلى مؤتمرات السعوديّة وفرنسا انتهاءً بقطر، ما هذا البلد الذي لا يكبر عقله إلّا في المهجر؟ وما هذه الحروب التي لا يقطف ثمارها إلّا الآخرون؟
فلننتظر صباح الغد علّنا نقرأ بعض حقيقة ما يحصل عبر تعليقات الصحف... الإسرائيلية!