وينن، وين صواتن، وين وجوهن، وينن»...غابت مؤسّسات المجتمع المدني خلال «بروفة» أيّام الحرب الأخيرة التي عصفت بلبنان، وتركت هذه الأغنية تجيب بها عن تساؤلات من افتقدها. ثمّ عادت بعد هذا الغياب «الفاضح»...وبعد انتهاء البروفة، تنبش خفايا هذا التأخير، في محاولة منها لترميم الصرخة التي انقسمت كما المجتمع السياسيّ
راجانا حميّة

مرّت الأيّام السبعة التي عاشها لبنان وسط زخّات الرصاص والموت، من دون أن نحظى بلحظة «انقلاب» اعتدناها من تيّارات المجتمع المدني والجمعيّات الأهليّة في مثل تلك الظروف الحرجة. فبدا، وسط هذا الظرف «الطارئ» الذي أغرق شوارع العاصمة والمناطق الأخرى بالفوضى، أنّ المجتمع المدني ليس على ما يرام، أو أنّ الأحداث المفاجئة لم تسعفه على توحيد صرخته لمواجهة الأطراف السياسيّين العابثين بـ«الأمن والسلم»... الأمر الذي انعكس سلباً على صورته التي اقترنت في الكثير من الأحيان بالتساؤلات عن سبب هذا الغياب الذي وصفه البعض بـ«الفاضح» و«اللّامبرّر».
ولكن كلّ هذا الغياب، لم يمنع بعض أطراف هذا المجتمع من القيام ببعض المحاولات الخجولة التي وقفت عند حدود مبادرة «فرح العطاء»، بالشراكة مع عدد من الجمعيّات التي حضرت في 13 نيسان الماضي، حيث جمعت فيها رؤساء الطوائف الدينيّة في دعاء سلميّ على نيّة الوطن عند خطوط التماس الجديدة التي رسمتها الحرب. وما عدا ذلك، أرجأ هذا المجتمع حضوره إلى آخر أيّام الحرب، حين بدأت بعض الجمعيات مشاوراتها للتفكير في خطوات عمليّة، يسمح بها وضع لبنان السياسيّ وقدرة هذا المجتمع على خرق «المحظور»، التي خرجت إلى العلن مع نهاية جولة العنف وبداية الحوار الوطني.
وأمام هذا الواقع، كان لا بدّ من إيراد بعض التساؤلات عن سبب التأخّر في مواجهة الظروف الحرجة التي مرّ بها لبنان، وما الذي يدفع مجتمعاً بأكمله إلى التحصّن وراء خدعة القمع السياسي لتبرير هذا الغياب؟
ولكن قبل المباشرة بخوض تفاصيل هذا الغياب و«جردة الحساب» التي يشنّها بعض من هذا المجتمع على بعضه الآخر، ثمّة جردة أخرى لا يُستثنى منها المجتمع السياسي أيضاً، الذي كان له الدور الأبرز في ضياع المؤسّسات المدنيّة. ولئن كانت هذه الأخيرة قد عاشت الضياع بشكله العلنيّ في الأحداث الأخيرة، فإنّ ذلك كان كفيلاً بتخفيف عبء الذنب الذي تحمّله، باعترافات بعض أطراف المجتمع المدني. ومن أوّل الاعترافات، ما دأب على تكراره ممثّل الجمعيّة اللبنانيّة من أجل ديموقراطيّة الانتخابات المحامي زياد بارود، في اجتماع «خلص» الأخير، بأنّه «لا جدار فاصلاً بين المجتمع المدني والآخر السياسي»، وخصوصاً في الفترات الأخيرة التي خُلطت فيها الأوراق، فلم يعد التمييز واضحاً بين الاتّجاهين. أمّا الاعتراف الآخر، الذي يتوافق عليه غالبيّة أطراف المجتمع المدني، فنادى به ممثّل جمعيّة «فرح العطاء» ملحم خلف، وهو يتعلّق بمساحة هذا المجتمع للتحرّك على أرض الوطن... التي تواجه ظروفاً عصيبة في مقابل «المدّ» الذي يحشده المجتمع السياسي. خلف، الذي يسعى هو الآخر إلى إخراج المجتمع المدني من «تعبه»، يجد أنّ مساحة السلم المتاحة للمؤسّسات المدنيّة والأهليّة تحتاج إلى هيكليّة واضحة مرسومة على أساس المبادئ الوطنيّة بعيداً عن اللعبة السياسيّة، «وهو ما لم يتحقّق إلى الآن»، إضافةً إلى مساحة أخرى، يحدّ منها التمويل الذي تتلقّاه معظم جمعيّات المجتمع المدني، الذي يؤثّر في طبيعة تحرّكها، وتالياً في لمّ شمل هذا المجتمع في الأزمات الضاغطة.
ولكن في مقابل هذه الشكوى من تأثير المجتمع السياسيّ على تحرّكات المجتمع المدني، لا مفرّ من تحميل مسؤولية موازية لمجتمع لا يزال في مرحلة «المراهقة الوطنيّة»، ولم يرقَ بعد إلى مستوى النضج، بحسب الكثيرين من أطراف المجتمع. وفي هذا الإطار، يفنّد بعض الأطراف سلسلة من الأخطاء التي تعرقل مسيرة هذا المجتمع، ومنها أن تركيبته لم تكوّن إلى الآن قوّة ضغط تستطيع إسقاط أخطاء النظام، إضافةً إلى أنّ كلّ «طائفة من هذا المجتمع المدني تعتمد على مبادئ ومفاهيم لا تشبه الوطن، بقدر الشبه الذي تنحوه نحو مصالحها». ويعود هذا الطرف في الحلّ إلى الطرح الذي كان قد باشره خَلَف بشأن الهيكليّة التي «يجب أن تكون واضحة، وذلك عبر تحويل تحرّكات المجتمع المدني من مجرّد حالة اعتراضيّة، ليكون بديلاً عن الممارسات السياسيّة الخاطئة للنظام».
إلّا أنّ كلّ هذا العبء الذي يحمّله البعض لمجتمعهم المدني، لم يمنعهم من الإقرار بأنّ ثمّة فئة من المؤسّسات المدنيّة لا تزال تحمل ذاك الخوف على مستقبل الوطن، وتحاول بإمكاناتها مواجهة فئتين أُخريين، واحدة منها تسعى تحت الغطاء المدني إلى دخول العمل السياسيّ وأخرى تتوسّل المؤسّسات المدنيّة من أجل الاستحصال على التمويل، أيّاً تكن الجهة المانحة.
ولكن وسط هذا «التقاتل»، ما الذي يبشّرنا به المجتمع المدني، وخصوصاً في هذه الظروف التي يمرّ بها لبنان؟ وبانتظار أن يتمّ التوافق النهائي على لمّ شمل هذا المجتمع، أطلقت مجموعة «وحدتنا خلاصنا» بيانها الأوّل ضمن حملة «جمع الشمل»، الذي تتوجّه فيه إلى السياسيين في الدوحة، تطالبهم فيه «بالتمسّك في الحوار بالمصلحة العامّة والشاملة والخير العام لكلّ اللبنانيين، والتطرّق إلى المشاكل الحقيقيّة بموضوعيّة وتواضع»، إضافةً إلى «التخلّي عن الخطابات العنيفة والتصعيديّة وتحمّل المسؤولية الكاملة تجاه كلّ اللبنانيين، وأخيراً المصالحة، والعودة مجتمعين على محبّة المواطنين جميعاً». وبعيداً عن البيان الأوّل، تستكمل «وحدتنا خلاصنا» حملتها بإصدار بيانات أخرى في كلّ يوم لمواكبة التطوّرات والبحث في الخطوات المتوقّع تنظيمها.
وبموازاة بيان «وحدتنا خلاصنا»، وجّهت مجموعة «خلص» رسالة مشتركة من «مواطن من خلص»، إلى هواتف السياسيين، «نقول فيها لك أيّها السياسي إنّ سلوكك الفوضويّ واللامسؤول أهان وخان الشعب، لأنّك متسلّح بعقليّة إجراميّة ودمويّة»، مطالبين «بإيفاء الوعد وعدم اللجوء إلى العنف مجدّداً».