هل تسفر الدوحة عن لائحة طرابلسيّة انتخابيّة تضمّ 3 رؤساء حكومة؟غسان سعود

قبل الانتفاضة المسلّحة، كان فهم خريطة مدينة طرابلس السياسيّة شبه مستحيل. إذ خلافاً للانطباع بأن «قلعة المسلمين» هي أحد المعاقل الرئيسيّة لتيّار المستقبل، يظهر التجوّل في هذه المدينة هيمنة صور الرئيسين نجيب ميقاتي وعمر كرامي والوزير محمد الصفدي. ويدل كلام الناس على فهم عميق للبعد الاقتصادي السوري وضرورة تحسين العلاقات مع دمشق من جهة، إضافة إلى الحد من «تفلّت أخلاقي» يخلفه تيار المستقبل نتيجة انعتاقه من «الفروض الدينيّة» لمصلحة العلمانيّة والانفتاح من جهة أخرى. ووسط بروباغندا القوة المستقبليّة، ينسى كثيرون أن نتائج الانتخابات النيابية كانت مخيّبة للمستقبل في الشمال، وفوز لائحته كان شبه مستحيل لولا أصوات أنصار الرئيس نجيب ميقاتي واعتكاف الرئيس عمر كرامي، إضافة إلى الأصوات التي رفدت لائحة المستقبل من قضاء المنيّة، مع الأخذ في الاعتبار أن حصّة المستقبل من نواب المدينة الثمانيّة كانت ثلاثة فقط (سمير الجسر، مصطفى علوش، وبدر ونوس) مقابل ثلاثة للتكتّل الطرابلسي (محمد الصفدي، محمد كبّارة، وموريس فاضل)، إضافة إلى نائب للتجدد الديموقراطي (مصباح الأحدب) ونائب لليسار الديموقراطي (الياس عطا الله).
واليوم، تزداد خريطة المدينة تعقيداً، فيختفي الوزير السابق ومؤسس تيار المستقبل في الشمال سمير الجسر من الصورة، في انسحاب يشبه انسحاب زميله وزير العدل السابق بهيج طبارة الذي اعتكف، دون زعل، مكتفياً بإبداء المشورة حين تطلب. ويطل على الطرابلسيين النائب مصباح الأحدب معلناً نفسه زعيم المدينة الجديد. مثلما يتوسع منظِّرو المقاهي والعيادات في طرابلس في تفنيد المستوى الذي بلغه تيار المستقبل في الشمال حيث الناس، على ما يزعم من يطلق عليهم صفة مثقّفي المدينة، يبرعون في التجارة، ويحسبون احتمالات الربح والخسارة جيداً، ويعلمون، أكثر من غيرهم، ما هو ثمن استعداء السوريين من جهة، والرهان على المتشددين من جهة أخرى. واللافت أن معظم الكلام عن تيار المستقبل بات محكوماً بصيغة الماضي. ويشرح المطّلعون أن الرئيس ميقاتي والوزير الصفدي كانا خلال العامين الماضيين يقضمان شعبيّة المستقبل ويراكمان خطف مؤيّدي المستقبل عبر شبكتيهما الخدماتيتين الواسعتين. وهذان الرجلان هما الأدرى، بحكم عملهما وفق الورقة والقلم، بالحجم الحقيقي لكل قوّة سياسيّة في المدينة. ويقال إن المعارضة الطرابلسيّة نجحت خلال الشهور القليلة الماضية في تحقيق خرق كبير في المدينة عبر لملمة مؤيّديها وتأطيرهم ضمن شبكة متماسكة تربط الأحياء بعضها ببعض.
وكان الصفدي وميقاتي قد ألزما خلال الحوادث الأخيرة قواعدهما عدم التحرك، ورفض النائب الجسر أي عرض للعضلات أو الاحتكام إلى السلاح، فقفز الأحدب إلى الواجهة مؤكداً لغرفة عمليّات الأكثريّة جهوزيّة المستقبل للرد على انقلاب المعارضة من طرابلس. ولكن، يتابع المرجع، سرعان ما فهم الأحدب ومن معه أن أي اقتراب جدّي من قوى المعارضة الفاعلة في المدينة سيواجه برد حاسم. وقد تراكمت عند الأحدب وغيره التقارير التي تؤكد جهوزية المعارضة الطرابلسيّة لاحتمال كهذا.
وعند هذا الحد، يقول مرجع إسلامي مؤثّر في المدينة، ارتاحت المعارضة وأجرت مراجعة سريعة لحالة الشارع الطرابلسي مهّدت لبدء المرحلة الثانية. فخرج الرئيس كرامي يؤدي في الشمال دور الوزير السابق طلال أرسلان في الجبل، لكن ببذلة سياسيّة بدل اللباس العسكري. فأكد بداية على ثوابت المعارضة، ثمَّ مدَّ يده إلى «كل أهل المدينة»، مؤكداً من حيث لا يدري البعض أن الصراع ليس «سنّياً ـــــ شيعياً»، وأنه لو كان كذلك لكان هو حتماً مع «السنّة». وفي رأي بعض المتابعين، أن كرامي، وبعد اطمئنانه إلى سيطرته الأمنيّة وإلى انهيار البنيّة التنظيميّة للمستقبل في الشمال، خرج بخطاب المنتصر، الواعي سياسيّاً لمقتضيات استمراريّة هذا الانتصار. مع العلم أن رئيس الحكومة السابق كاد يكون الوحيد القادر خلال الاشتباكات بين جبل محسن والتبانة على التواصل مع فاعليّات المنطقتين للتهدئة.
وسرعان ما استوعب الظرف المطّلعون على معطيات كرامي، والواثقون بصحتها، فتلقّف مفتي طرابلس مالك الشعّار اليد الممدودة، وبدأ اتصالات متشعّبة هدّأت أنصار المستقبل، وألزمتهم البقاء في منازلهم، ونجح المفتي في لمّ شمل فاعليات المدينة الذين تعهّدوا أمامه تجنيب مدينتهم التقاتل، وسط معلومات تشير إلى قرب المفتي الشعّار من الحريري، واندفاعه نحو مبادرة كهذه نتيجة تأكّد الحريري من أن ميزان القوى ليس لمصلحة تيّاره في طرابلس.
في موازاة كرامي والشعّار، برز التحول في موقف الصفدي الذي يعتقد المراقبون في طرابلس أنه سيتضح أكثر فأكثر خلال الأيام المقبلة. وفي رأي هؤلاء أن الصفدي، ومنذ مؤتمر سان كلو، كان يراكم الملاحظات والاتصالات المحليّة والإقليميّة في انتظار اللحظة المناسبة لاتخاذ الموقف الذي يحدد وجهة طرابلس السياسية للمرحلة المقبلة، علماً أن لقب دولة الرئيس يدغدغ، منذ فترة، مخيّلة الصفدي الذي أخذ من المستقبل منصب الوزير ثم أُغلق الباب بقوة في وجه طموحه. وهو لم ينس بعد كيف مزّقت صوره في طرابلس حين اعترض على انتخاب الرئيس بالنصف + 1. واستدل من تصعيد الأحدب ضده على أسلوب تعاطي المستقبل مع من يتميّزون عنه. ومع الصفدي كان ميقاتي يكمل الصورة بإبلاغه المعنيين أنه غير مستعد لتقديم نفسه مرة أخرى على مذبح استمراريّة تيار المستقبل.
هذه المؤشرات تحوّلت معطيات واتصالات في الصالونات السياسيّة، تحسم قوى مؤثرة في المعارضة الطرابلسيّة تحولها إلى لائحة انتخابيّة تجمع ما استعصى على السوريين في السابق جمعه. لائحة، إذا انتهت محاورات الدوحة كما هو متوقع، ستضم ثلاثة رؤساء حكومة. أما بعد، فيتساءل الشماليّون عمّا بقي للزعامة الحريريّة بعد انعتاق طرابلس وصيدا من قبضتها.


سخرية القدر

سخرية القدر ربما هي التي جعلت شركة Secure Plus التابعة لتيار المستقبل تتخذ مقرّاً لها المبنى الذي كان لأعوام مقرّاً للجيش السوري في أحد شوارع طرابلس.
المبنى تحوّل خلية نحل تعمل على مدى 24 ساعة، وخصوصاً منذ 7 أيار: بعد هبوط الليل، يتوقف الفان الأبيض أمام المبنى ويأخذ مسلّحين ببنادق حربية إلى جهات مجهولة. على بعد أمتار، يقع منزل النائب مصباح الأحدب، حيث اقتطع أكثر من نصف الطريق «لدواعٍ أمنية».
تحوّل الشارع الموازي، حيث يعيش الوزيران أحمد فتفت وسمير الجسر، واللواء أشرف ريفي، إلى ما يشبه حلبة مخصصة لامتحانات السير لكثرة العوائق الحديدية فيه، مما أسهم في الازدحام.


تعكير الميناء

لم تسلم مدينة الميناء البعيدة عن التجاذبات السياسية من الحوادث الأمنية. فبعد حرق أفواج طرابلس مكتباً فيها، ألصقوا صوراً لكل من الرئيس الحريري وابنه سعد على جدرانه. وحصل تبادل لإطلاق النار الصديقة بين مناصري تيار المستقبل، كان سببه انقطاع التيار الكهربائي، بعد أيام من الحادثة الأولى التي شهدتها المدينة بين أنصار الرئيس كرامي وهؤلاء. ولم تسلم مستوعبات النفايات من التخريب، فكتب عليها كلها اسم الرئيس السوري بشار الأسد، فيما حاولت بلدية المدينة، وعلى عجل، طمس شتائم ضد الوزير السابق وئام وهاب على أحد الجدران. وأطلق مجهولون النار تحت منزل أحد الناشطين في تيار المردة.