الأضرار قد تحرم 50 ألف لبناني من أراض تملكوها منذ 200 عام
سوريا ــ رامح حمية

ما إن تتجاوز مدينة الهرمل وتصل بلدة القصر شمالاً حتى تصبح قاب كيلومتر واحد أو أدنى من الحدود اللبنانيةـ السورية الشمالية. أراض خضراء خصبة تمتد لمساحات شاسعة ولا يستوقفك عند بلدة مطربة إلا طريق مسدودة بساتر ترابي، تنتظر منك الترجل والسير على الأقدام، ذلك أن دخول السيارات غير مسموح إلا عند نقطة القاع الحدودية.
حاجزان للأجهزة الأمنية السورية يكتفي عناصرهما بطلب الهوية فقط، لأن الوجه «غريب» على المنطقة، من دون أي تصريح أمني. بعدها تنطلق في رحلة يقال إنها في بلد آخر، إلا أنك لن تلاحظ الفرق الكبير ولن تصاب بالغربة داخل ما يسمى قرى حوض العاصي الحدودية، لأن سكانها لبنانيون انخرطوا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتربوية في الدولة السورية منذ أكثر من مئتي عام، فأضحت لديهم أملاك وأرزاق ومعاملات قانونية وعقارية، ما خلا الجنسية السورية والحقوق السياسية. تنتشر قرى حوض العاصي الحدودية غربي منطقة القصير في محافظة حمص، ويزيد عددها على 15 قرية متجاورة في ما بينها وهي: حويك، زيتا، الفاضلية، غوغران، دبين، وادي حنا، الديابية، الصفصافية، القرنية، الجنطلية، الحمام، المصرية، أم الدمامل، مطربة، السويدية، ربلة، بلوزة، السماقيات الشرقية والغربية.
نستوقف بعض النسوة في بلدة زيتا، لنسأل عن لبنانيين فتأتي الإجابة بلهجة سورية: «نحنا كلنا هون لبنانيّي أباً عن جد، تفضلوا»، وتبادر أم حسين إلى دعوتنا إلى كوب حليب صباحي طازج، قبل أن تخبرنا أن القرى الحدودية التي يسكنون فيها «ترتكز بشكل أساسي على الزراعة، كما أن للثروة الحيوانية دورها الفاعل في حياتنا الاقتصادية المعيشية». وأكدت أنهم يعيشون في كنف الدولة السورية ويأكلون من خيرها «التعليم والاستشفاء والمازوت مجاني، وحتى السلع رخيصة»، رافضة أن يكون هناك أي حدود بين سوريا ولبنان «لأنو اللي بيشرب من بئر ما بيزت (بيرمي) فيه حجر»!
محمد إدريس مختار بلدة القصر اللبنانية والمسؤول عن معاملات الأحوال الشخصية للأهالي اللبنانيين، الذي صودف وجوده في زيتا لتسليم بعض بطاقات الهوية اللبنانية، أوضح أن قرى حوض العاصي الحدودية يزيد عدد سكانها على 50 ألف نسمة، وهم عبارة عن مزيج طائفي متنوع (سنّة، شيعة، مسيحيون، علويون) ويشاركون جميعاً في الانتخابات البلدية والنيابية في بلدة القصر. ويتابع: «سوريا بالنسبة لنا هي الأم التي لا تبخل علينا بشيء، فهي ترعانا وتقدّم لنا كلّ ما يساعدنا على متابعة حياتنا ومواجهة شظف العيش، ونحن بالتالي نخضع لقوانينها ونلتزم بها بشكل عادي».
يبعثر بعض الأوراق أمامه بحثاً عن أحد طلبات بطاقة الهوية فيما يضيف: «مثّل عام 2005 منعطفاً في حياتنا، وازدادت الأمور سوءاً بعد رحيل الجيش السوري من لبنان ومطالبة فريق الأكثرية الحاكم بترسيم الحدود وإقامة سفارتين بين البلدين الشقيقين، الأمر الذي انعكس اعتراضاً وخوفاً عند اللبنانيين المقيمين داخل الأراضي السورية مما ستؤول إليه الأمور، لناحية حقوقهم وأملاكهم إذا أصرّ الطرف اللبناني على خطوته ومطلبه المجحف بحق الدولة التي تمثل الأمّ الحنون بالنسبة لنا لناحية الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والصحية المجانية التي تؤمّنها لهم منذ عقود طويلة، مساوية بيننا وبين المواطن السوري باستثناء الخدمة الإجبارية والانتخاباتيشرح إدريس أكثر عن طبيعة المخاوف: «بعد أن كان بإمكان المواطن اللبناني التملّك، صدر قرار في الفترة الأخيرة عن الدولة السورية، وبالتحديد بعد إحدى المقابلات التلفزيونية للنائب وليد جنبلاط التي أشار فيها إلى أن بلدة القصير لبنانية، تم بموجب هذا القرار تعليق تملّك اللبنانيين وسحب الملكية من أصحابها والسماح فقط بالاستفادة من قانون الإصلاح الزراعي الصادر عام 1964، الذي يقضي بالعمل تحت شعار «الأرض لمن يعمل بها ويزرعها»، أي إن الاستعمال والاستغلال لمن يعمل بها وبأجر رمزي 300 ليرة سورية على الدونم الواحد سنوياً، في حين أن حق الملكية يبقى للدولة السورية»، ولفت إلى أن «القرار ما زال مجمداً حتى اليوم من القيادة السورية بانتظار ما ستؤول إليه الأمور السياسية، إذ من الممكن فيما لو ساءت الأمور أن تسحب ملكية هذه الأراضي منا». وكشف المختار أنه «نتيجة لمشاعر القلق والخوف، يُقبل حالياً بعض اللبنانيين المقتدرين مادياً على شراء عقارات في الهرمل والقصر، في محاولة لتفادي أي تداعيات قد تطرأ على العلاقة اللبنانية السورية».
من جهة ثانية، أكد المختار «أن الدولة السورية لا تمارس أي نوع من تقييد الحريات بالنسبة لنا، لجهة المشاركة في الانتخابات البلدية أو النيابية في لبنان، ولا حتى بالنسبة لانتخاب مرشح حزب البعث».
نتابع الجولة، ونلتقي عبد الكريم السحمراني أحد المزارعين وهو يحاول تشغيل مولّد سحب المياه لريّ قمحه. يعبّر عن احترامه للدولة السورية التي «تعاملنا بتقدير وتؤمن كلّ متطلبات العيش الكريم، وسائر الأسمدة والأدوية الزراعية التي يحتاجون إليها، إضافة إلى مسؤوليتها عن تصريف الإنتاج مهما كانت حالة السوق العالمية»، وأشار إلى «اعتزازه بمواطنيته كلبناني» إلا أنه لا يحتاج من لبنان إلى شيء بل يقصده فقط «لبعض الزيارات العائليةالسحمراني يرى في ترسيم الحدود في ظلّ الأوضاع الحالية مضارّ كبيرة وعديدة ستطال حركة تنقلهم فيقول: «نحن اليوم لا يفصلنا عن القرى اللبنانية سوى ساتر ترابي نتنقل بموجبه بحرية كاملة»، مشيراً إلى دراجته النارية التي يسمح له بالتنقل فيها «أما لو أصبح هناك حدود وعلاقات دبلوماسية فسنحتاج إلى جوازات سفر وتأمين، عدا الإقامة وغيرها من الأمور».
ليست هذ كلّ الأضرار، يعرض السحمراني سندات تمليك سورية صادرة عن السجل العقاري السوري منذ عقود خلت: «الأضرار أيضاً ستطال أملاكنا التي تعب أجدادنا وآباؤنا في تكوينها منذ أكثر من مئتي عام، وهي مسجّلة في السجل العقاري السوري بموجب سندات تمليك»، مشيراً إلى وجود مالكين لبنانيين لمساحات شاسعة كالرئيس الراحل صبري حمادة ونايف حسين ناصر الدين «ستصبح هذه الأملاك في مهبّ الريح والمجهول لو أصرّت الدولة اللبنانية على خطوة الترسيم والدبلوماسية». وكشف أنه اشترى نحو 30 دونماً في القصر لأبنائه «تحسباً لأي طارئ»!
بين بلدتي زيتا وحويك، نشاهد سيارة تحمل لوحة لبنانية، مركونة أمام أحد المنازل. إنه الحاج علي أبو بكر (متقاعد من الجيش اللبناني) الذي يرحب بنا ويقوم بواجب الضيافة قبل أن يشرح بدوره ظروف حياتهم كلبنانيين في الأراضي السورية: «الأهالي اللبنانيون باتت تربطهم مع السوريين علاقات متداخلة من قربى ومصاهرة، بالنظر إلى الزواج المختلط بينهم. وتعاملنا الدولة السورية كمواطنيها لجهة تأمين كلّ الخدمات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، حتى تلك المدعومة كالخبز والمازوت» (حيث تنال كل عائلة 250 ليتراً من المازوت شهرياً، صيفاً وشتاءً) متسائلاً: هل باستطاعة حكومتنا أن تؤمن لنا فقط ما نملك في سوريا؟
ويشدّد الحاج علي على عدم إمكان الفصل بين دولتين تداخلتا سكانياً وجغرافياً، مشيراً إلى حالة قلق وترقب عندهم من طريقة تعامل الدولة اللبنانية مع هذا الملف: «نحن قلقون اليوم على أرزاقنا وخائفون من الأيام الآتية، والمستقبل وما يحمله لنا؟».
وخلص إلى التساؤل: «لماذا لا يأتي المسؤولون الذين يطالبون بالترسيم، ويشاهدون حياتنا ويتعرفون عن كثب على علاقة سوريا معنا من دون أن يكون هناك أي مآرب سياسية؟».
جولتنا لم تنته، نقصد الفاضلية التي لم تختلف عن أخواتها لناحية الجمال الطبيعي الذي يزنّر أراضيها الخصبة، ولأن حرّ الظهيرة أدركنا، كان لا بد من دخولنا إلى أحد المحال التجارية التي تزخر بالسلع السورية في ظلّ غياب أي سلعة لبنانية. صالح سلمان أحد الزبائن الذين وافقوا على إبداء رأيهم، رفع بطاقة الهوية اللبنانية قائلاً: «إن ما يربطني بوطني لبنان هو هذه الهوية التي لن نتخلى عنها. في حين أن ما يربطني بالدولة السورية عميق جداً لما فيه من احترام واحتضان وخدمات مجانية في شتى المجالات الحياتية». وتساءل سلمان «هل في لبنان القدرة على استيعابنا كمواطنين يحتاجون للعمل والأرض والمنازل؟»، مؤكداً أنه لو تمت خطوة الترسيم «رح نتبهدل ونخسر تعبنا ورزقنا، وساعتها وين بدنا نعيش ومين بدو يساعدنا بظل الأوضاع اللي عم نشوفها؟ هيدا يا عمي هو سبب التخوف والقلق عندنا!».
يخلص سلمان إلى التساؤل: «لماذا المطالبة بإقامة سفارة بين لبنان وسوريا في الوقت الذي نحتاج فيه إلى الوحدة والتآلف ورفع ما يسمى جوازات سفر وسفارات بين الأشقاء؟».


الدبلوماسية لا تُفرض بالقوة

يؤكد النائب نوّار الساحلي، الذي التقيناه في الهرمل، وجود خشية لدى اللبنانيين الذين يعيشون في سوريا من موضوع إقامة سفارات وإقفال المعابر الحدودية المخصصة لهم «لعلّ خشيتهم هذه ناجمة من تخوّف من تغيير في طريقة التعامل معهم من الطرف السوري»، متوقعاً أن تأخذ «القيادة السوريـة حكماً الموضوع بحكمة ودراية، ولن تحرم أهلنا من حقوقهم».
وردّاً على سؤال عن استصدار قرار بالترسيم وإقامة سفارات من مجلس الأمن وتأييده عربياً ودولياً أجاب قائلاً: «في ظلّ الأجواء المتشنجة التي افتعلها فريق الوصاية الأميركية مع سوريـا، لا يمكن الحديث عن خطوة كهذه، لأن ترسيم الحدود هو علاقة دبلوماسية لا يمكن فرضها بالقوة ولا حتى بالقرارات الدولية، بل تتم باتفاق بين الدولتين»، وأضاف الساحلي: «وفيما لو حصل ذلك فسيكون لنا الموقف الذي لا نقبل فيه أن تُهدر حقوق اللبنانيين أو يتم التعدي على حقوق السوريين، وخصوصاً أن تجربتنا مع مجلس الأمن في ما خصّ العدل والعدالة تجربة مريرة وغير مطمئنة».
وأعطى الساحلي مثالاً عن دول مشابه وضعها لوضع لبنان وسوريا وتتميز علاقتهما بالإيجابية، ومنها بلجيكا واللوكسمبورغ، فرنسا وبلجيكا، أميركا وكندا، متسائلاً: «كيف ينبغي أن تكون العلاقة إذا كان التاريخ مشتركاً بينهما، والجغرافيا متداخلة والمصير واحداً!؟».