يكاد الإفلات من العقاب يكون السمة الأبرز لـ«العدالة» اللبنانية خلال الفترات التي تشهد البلاد فيها اقتتالاً داخلياً، رغم ما رافق الحروب الأهلية من جرائم يصنّف بعضها بأنه ضد الإنسانية. الاقتتال الأخير لم يشذّ عن هذه «القاعدة»، من الناحية الجرمية، إلا أن القضاء باشر التحقيق بالجرائم. فهل يحاسب القتلة والمعذبون هذه المرة؟
عكار ــ خالد سليمان

باشرت الشرطة العسكرية تحقيقاتها في الجرائم التي وقعت خلال المعارك التي دارت بين الثامن والثاني عشر من أيار الجاري في بيروت وصيدا والشمال والجبل. وتقع على رأس لائحة هذه الجرائم التي يجري التحقيق فيها، بإشراف النيابة العامة العسكرية، مقتل السيدة آمال بيضون وابنها هيثم طبارة في منطقة رأس النبع في اليوم الأول من الاشتباكات، ومقتل آمنة ناصيف في اليوم التالي في بر الياس، وشابين من حزب الله يشتبه في أنهما أُعدِما في عاليه، وصابر القادري وميادة القادري في صيدا، إضافة إلى إحراق مبنى تلفزيون «المستقبل» في الروشة.
ومن أكثر الجرائم دموية، التي باشرت الشرطة تحقيقاتها فيها، مقتلة حلبا يوم 10 أيار 2008 التي أعقبت اشتباكات بين مناصرين للحزب السوري القومي الاجتماعي وآخرين يشتبه في مناصرتهم تيار «المستقبل» (الذين قال التيار المذكور إنهم ليسوا من صفوفه لكنهم «من الأهالي الغاضبين»). الاشتباك وما تلاه أوقع 16 قتيلاً و26 جريحاً، وقال الحزب القومي إن عدداً من القتلى جرت تصفيته بعد انتهاء الاشتباكات، كما ظهرت على شبكة الإنترنت وشاشات التلفزيون صور لجرحى يتعرّضون للضرب المبرح، إضافة إلى شهادات عدد من الأشخاص عن تعرضهم للتعذيب بعد انتهاء المعارك في باحة أحد المستشفيات حيث قتل أحد الجرحى تحت التعذيب.

«وضعوا أنبوب الإطفائية في فمه»

ومن هذه الشهادات، ما ذكره الجريح الناجي من حلبا توفيق فياض لـ«الأخبار» الذي نُقِل، مع 4 من رفاقه، من مركز اليوسف الطبي في حلبا إلى مستشفى الكورة في بطرام، «خشية أن يلقوا مصير ناصر حموضة»، بحسب ما قال فياض. وذكر الجريح الناجي لـ«الأخبار» أن بين الذين جرت تصفيتهم «ناصر حموضة الذي وضع المسلحون خرطوم قارورة الإطفاء في فمه ثم فتحوا القارورة حتى وفاته، على مرأى من الطاقم الطبي».
روى فياض ما حدث معه في اليوم العاشر من أيار، حيث توجّه سيراً على الأقدام من ساحة حلبا باتجاه مركز الحزب القومي عند العاشرة صباحاً، عندما كان المعتصمون المؤيدون لتيار «المستقبل» قد قطعوا الطريق. بعد نحو نصف ساعة بدأت الاشتباكات، «واستقدم المهاجمون تعزيزات مسلحة، فلجأت مع والد الشهيد مخايل سليمان وكل من عماد شدراوي ووليد بطيخ وشاب ملقب بـ«السكران» (أصيبوا لاحقاً بجروح خطيرة)، لجأنا إلى بناء مؤلف من 3 طبقات يقع على مسافة 50 متراً من مركز القومي، وكانت جميع شقق المبنى مقفلة وخالية من سكانها».
وتابع فياض: «عند الثالثة بعد الظهر، بعد سقوط مكتب القومي وإحراقه، اقتحم المسلحون المبنى، فاختبأت في إحدى الغرف. كنت أسمع عبارات التكبير، وشاهدت أناساً يحملون أسلحة وعصياً وسيوفاً، لكنهم لم يجدوني. في جولتهم الثانية، عثروا علينا. ظلوا يضربوننا بأعقاب البنادق لنحو نصف ساعة. سألني مسلح ملتحٍ عن البلدة التي أنتمي إليها، فأجبته إنني من سهل عكار وأقيم في حلبا. عندها تدخل أحد المهاجمين متحدثاً عني: إنه من بلدة التليل، وأنا أعرفه. فقال الرجل الملتحي موجّهاً كلامه إلي: أنت من ارتكب جريمة ثانوية حلبا (التي ذهب ضحيتها عدد من التلامذة قبل أشهر على خلفية إشكال مع أحد أبناء بلدة التليل). فقلت له أن لا دخل لي بما حصل وأن الجاني موقوف.
خلال هذا الحديث لم يتوقف الضرب والتعذيب، ثم قال لي الملتحي: «أنا لن أقتلك بالرصاص بل سآخذك إلى الجرد وأعذبك». في هذا الوقت، تدخل رجل «أنيق» وقال للمجموعة إن «القوميين أسروا عدداً من شباب «المستقبل» في بلدة الحصنية، وسيصفّونهم إذا صفّينا القوميين». بعد قليل، وصل «ضابط في الدرك، وطلب من المسلحين نقلنا إلى إحدى الشاحنات، من دون أن يمنعهم من متابعة ضربنا».
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، أضاف فياض، «فعندما وصل المسلحون بنا إلى محاذاة مكتب القومي على مرأى من الضابط، ضربني أحد الأشخاص بحجر على رأسي فغبت عن الوعي لبعض الوقت، قبل أن أستيقظ لأتحسس الدماء الغزيرة التي سالت من رأسي. وجوه الرفاق كانت أيضاً مغطاة بالدماء، وكان «السكران» مصاباً بجروح خطرة. اعتقدت أن حياتي قد انتهت، ثم استبشرت خيراً عندما اقتربنا من ساحة مستشفى اليوسف القريب من أرض المعركة».
أضاف فياض: «المفاجأة كانت في أن مناصري «المستقبل» كانوا بانتظارنا في باحة المستشفى. أنزلونا من الشاحنة، وبدأوا يضربوننا على مرأى من الجهاز الطبي العامل في المستشفى من دون أن يتحرك أحد لإنقاذنا».
في الباحة، أكمل فياض، «تقدم مسلحون ووضعوا أنبوب الإطفائية في فم الشهيد ناصر حموضة، بعدما اتهموه بأنه المسؤول عن مقتل أحد المتظاهرين». قضى فياض 24 ساعة في مستشفى اليوسف، واتهم الطاقم الطبي بعدم الاعتناء به كما يجب: «رفضت الممرضة تغيير لباسي المبلل بالدم، وكانت حياتي في خطر، فنُقِلت إلى مستشفى الكورة في بلدة بطرام».

اليوسف: لم نقدر على فعل شيء

في المقابل، الدكتور سعود اليوسف، صاحب مركز اليوسف الطبي ومديره، قال لـ«الأخبار» إن المسلحين «حضروا إلى باحة المستشفى من دون أن يدخلوه». وأكّد اليوسف أن المسلحين هاجموا الجرحى، رافضاً الإفصاح عن تفاصيل ما قاموا به. ورأى اليوسف أن الطاقم الطبي في المركز قام بواجبه التام تجاه الجرحى والمصابين، وأن أولويته كانت الحفاظ على طاقمه الطبي داخل المركز، وأنه لم يكن قادراً على القيام بأي تحرك بوجه المسلحين. ولفت اليوسف إلى أن أفراداً من قوى الأمن الداخلي كانوا موجودين في باحة المركز ولم يتدخلوا، وهو الأمر الذي لم ينفه مرجع أمني رفيع قائلاً لـ«الأخبار» إن رجال الأمن الداخلي لم يكونوا قادرين على مواجهة المسلحين.
من ناحية أخرى، وجّه «تجمع الأطباء» أمس نداءً إلى نقيب أطباء الشمال ومجلس النقابة دعا فيه إلى «التحقّق من المعلومات التي أوردها الحزب القومي السوري عن تمنّع بعض الزملاء عن القيام بواجبهم الإنساني في إسعاف بعض جرحى أعضاء الحزب خلال الأحداث الأخيرة».
في المقابل، قال نقيب أطباء الشمال الدكتور نسيم خرياطي لـ«الأخبار» إنه لا يجوز توجيه هذه الاتهامات الخطيرة إلى الجسم الطبي، لأن واجب الأطباء معالجة أي إنسان بحاجة إلى العناية الطبية. وطلب النقيب «إبلاغ النقابة بشكل مفصل بأسماء الأطباء الذين تخلّفوا عن أداء واجبهم، وفي حال ثبوتها تلتزم النقابة باتخاذ الإجراءات المسلكية والكفيلة بالمحافظة على قدسية العمل الطبي».