السلطة السياسيّة تستجدي حالات مماثلة لفتح الإسلامعام على بداية حرب نهر البارد في ظل الأزمة الحالية لا يختفي الحديث عن القاعدة والجهاديين، فهم حاضرون أبداً وجاهزون لحالات الفشل التي تصيب أبناء دينهم، وهم هاجس للعديد من القوى وخاصة تلك التي تصاب بالإفلاس، ولا سيما أن تجربة نهر البارد لم تنته تماماً بعد
فداء عيتاني
فجر يوم 20 أيار 2007، انفجرت اشتباكات شارع المئتين في محلة الزاهرية في طرابلس، وعقبها اندلعت المعارك على كل مواقع الجيش المشرفة والمحيطة بمخيم نهر البارد، استلزم الأمر حتى يوم الثاني من أيلول من العام نفسه حتى ينسحب عناصر التنظيم من المخيم المحاصر في عملية ملتبسة وغامضة، ولا يزال كل ما دار موضع أخذ ورد.
تحكم الطبقة السياسية ثلاث رؤى لما جرى، الأولى تفيد بأن فتح الإسلام جسم غريب بالكامل عن لبنان والمخيمات، وأنه انوجد بقدرة ما وزال نهائياً، وأن أبناء الطائفة السنية يستحيل أن يتفاعلوا مع أجسام جهادية مشابهة، وأنهم محكومون بالاعتدال. والثانية تفيد بأن فتح الإسلام منفصلة بالكامل عن تنظيم القاعدة وتم إرسالها من قبل المخابرات السورية وحظيت ببعض المساعدة المحلية لأسباب سياسية قبل أن يتم القضاء عليها ومنع تأثيراتها. والثالثة التي تنص على أن فتح الإسلام حالة معقدة ومتعددة المصادر التي تتقاطع في أكثر من مكان مع تنظيم القاعدة والتي لقيت دعماً من أطراف سنية محلية وجمعت حولها مجموعات جهادية قبل أن تنفجر الأمور وتعود فتح الإسلام إلى الانكفاء وإعادة تنظيم أوضاعها.
يجلس أحد القادة الأمنيين الرسميين في مكتبه ويتحدث عن المرحلة التي مضت، وهو لا يزال يتبنى نظريات عن فتح الإسلام وقياداتها، فقد تركت هذه الحركة خلفها من الألغاز أكثر مما ترك اشتباكها مع الجيش اللبناني في المخيم من دمار، من هوية قائدها شاكر العبسي، إلى المدى الفعلي لقيادته للتنظيم، وإخفاء صوته في أفلام الفيديو التي وزعها التنظيم على الإنترنت، وإشهار الصوت في التسجيل الصوتي الذي تم توزيعه كرسالة العبسي إلى السنيورة ومفتي البقاع.
الأسرار التي يحاول القائد الأمني تفكيكها ربما ستفيد في مصير التنظيم، وفهم تركيبته أكثر، إلا أن ثمة من يفترض به أنه أصبح على علم بدقائق الأمور. فقيادة الجيش، على الأقل، تعلم ومن خلال العشرات من المعتقلين بتفاصيل إضافية، إلا أنها إلى اليوم تتحفظ عن تسريب أي من المعلومات أو توضيح ما جرى في الشمال وما أفاد به المعتقلون، ولم تحل ملفات متكاملة إلى المحاكمات، ما عدا شبكة عين علق. وغير ذلك فإن أسرار فتح الإسلام لا تزال أسيرة الجيش والقوى الأمنية وأجهزة المخابرات دون المواطنين الذين عانوا من حرب البارد ومن تأثيراتها وحجم الضحايا التي أدت إليها.
بعد بدء المعارك كان يمكن توقع صمت القوى الأمنية نتيجة حجم الضحايا والإصابات بين العسكريين، وبقي هذا الصمت إلى أطول مما يفترض، فالسلطات، وخاصة الجيش، لم يقدم أية معلومات جدية خلال المعارك، ولم يسمح للإعلام بالمساءلة، ولم يعقد المؤتمرات الصحافية اليومية على ما يفترض بجيش أن يواجه به مواطنيه، والمؤتمر اليتيم الذي انعقد تم بعد انتهاء الأعمال العسكرية وانسحاب فتح الإسلام من المخيم في الرابع من أيلول، وهو لم يقدم إلى المواطنين العدد الفعلي من الإصابات التي وقعت في صفوف الجيش، وهي 3700 إصابة متفرقة بين إعاقة دائمة وجراح طفيفة. إلا أن ما يجب تسجيله هو موقف السلطة السياسية التي لم تكتف بتوريط الجيش في معارك دون التدخل في التفاوض أو التسويات أو الاتصالات، بل عمدت إلى إعلان موقفها الكارثي أنها «تقف خلف الجيش اللبناني» في الوقت الذي يفترض بأية حكومة سياسية الوقوف أمام القوات المسلحة وتوجيهها بدل تلزيمها أوحال المعارك العسكرية والانسحاب إلى خلفية الصورة.
عام مضى إذاً ولمّا تقدم معلومات جدية ورصينة لما جرى، وكل ما يملكه المواطن اليوم عن معارك طويلة وشاقة هو ما قدمته قيادة الجيش في المؤتمر الصحافي اليتيم، دون أن يعلم من مصادر محايدة حقيقة ما جرى، ودون السماح للإعلاميين وحتى اليوم من دخول المخيم القديم في نهر البارد، ودون السماح بعودة أغلب السكان، الذين تم تشريدهم من المخيم ورفعت أمامهم الشعارات الوردية التي تقول «الخروج مؤقت والعودة مؤكدة»، عدا عن إعادة الإعمار التي لم يتم منها إلا ما تبرعت به منظمات غير حكومية، أما أغلب سكان البارد والبالغين 40 ألفاً فيتم التعامل مع شؤونهم الحياتية يوماً بيوم وكيفما اتفق على غرار كل ضحايا الأزمات الكبرى في لبنان.
وفي الجانب السياسي لنهر البارد، هو ذاك الذي تشاركت به قوى الموالاة، حيث عمدت إلى إغراق الجيش بعد فشلها في اجتذاب تنظيم فتح الإسلام ليصبح العصا الضاربة للسنّة في لبنان، وكل خطوة كان يخطوها الجيش اللبناني في أوحال نهر البارد كان ثمة من يؤكد على أن قائد الجيش يحاول إظهار حسن نياته للأميركيين عبر ضرب الجهاديين في لبنان للوصول إلى سدة الرئاسة في الوقت الذي كانت فيه قوى 14 آذار تقف معارضةً وصول عسكري إلى السلطة كما كانت تعارض تعديل الدستور، قبل أن تستفيق البلاد على ترشيح النائب عمار الحوري لقائد الجيش إلى منصب الرئاسة الأولى. وحده حزب الله أعلن معارضة صريحة للمعارك، قائلاً على لسان أمينه العام إن الجيش خط أحمر كما المخيم خط أحمر، إلا أن ذلك أصبح مدعاة إدانة للحزب، بينما سعت عدة قوى من المعارضة الشمالية خاصة إلى إنتاج تسوية بين الجيش وتنظيم فتح الإسلام اصطدمت دائماً بتعنت قيادة الجيش وعدم ترحيب التنظيم الجهادي.
إذاً، عام مضى على بداية معارك نهر البارد، دون الوصول إلى خلاصات أو لجان تحقيق أو حتى إحالة المعتقلين بأجمعهم على القضاء ودون البدء بالمحاكمات، وحتى دون أن نعلم ما هو مصير فتح الإسلام وما هو مصير المعتقلين السعوديين في لبنان.


إعادة الكرة

تبدو المعالجات السياسية في البلاد قاصرة عن متابعة ما يجري عملياً في الشارع، وهي طبعاً تعيد إنتاج أسباب وجود تنظيمات كفتح الإسلام، وتسمح لقوى جهادية بالاستنفار والسعي إلى أخذ ثأر طائفة تتعرض لهجوم، بسبب ضعف آلية تبادل السلطة، فعجز تيار الحريري، الذي يمثل أغلبية ساحقة من السنّة، عن المحافظة على إمساكه بالسلطة كاملة، ورفضه التنازل السلمي بالمقابل عنها ولو مؤقتاً ولّدا الصراع المسلح، والذي أنتج من وجهة نظر السنّة هزيمة عسكرية، لم يعد من الممكن الخروج منها إلا عبر القوى الجهادية وتسليمها القياد ولو مرحلياً. المشكلة أن القوى الجهادية، حسب ما يقول أحد القادة الأمنيين، يمكنها الأخذ بالثأر ولكن لا يمكنها طرح برنامج سياسي في لبنان. إلا أن واقع الشارع لا يطالب بأكثر من الثأر حالياً.