تنامي الخطاب الطائفي واستعادة مفردات الاقتتال والخوف على أولاد كبروا ولم تعد حمايتهم ممكنة أيقظت الأحداث الأخيرة في بيروت والجبل والبقاع والشمال مخاوف كبيرة لدى اللبنانيين، أبناء الجيل الشاب في بدايات الحرب الأهلية كبروا وكبر أولادهم، ومن استطاع أن يخلّص فلذات الأكباد سابقاً من براثن الحرب، شعر خلال الأحداث الأخيرة بالعجز عن حمايتهم من جديد... هؤلاء يريدون الوفاق بين السياسيين أياً كانت البنود المتفق عليها
هيثم خزعل
... عند خروج الأولاد إلى العمل تتسمّر عيون الأهل أمام شاشات التلفاز ، في انتظار ما يرد من أخبار عاجلة، وساعات الانتظار صعبة وطويلة في بلد كان «اللا أمن» فيه سيد الموقف. جدار الخوف والقلق الذي تلفه رصاصات الحرب والابتهاج، لا يطفئه بين الفينة والأخرى سوى صوت الأولاد المنبعث عبر الهواتف النقّالة...
الأهل الذين عايشوا الحرب الأهلية الأولى أيقظت فيهم شرارة الأحداث الأخيرة ذكريات الماضي المجبول بالألم والخوف والتضحية. وعادت الكوابيس تقضّ مضاجعهم، ومن عبر بالأمس خريطة الموت التي كانت تمتد على مساحة الوطن، فإنّه يخاف اليوم أن يتحوّل سيناريو السلامة إلى سيناريو موت يخطف فلذة من فلذات أكبادهم.
مريم شاهين واحدة ممن عاشوا الحرب الأهلية في لبنان، وبرأيها فإن الحرب كانت أسهل مما حدث في الأيام الأخيرة. في الماضي كانت خطوط التماس معروفة لكن بعض المناطق كانت آمنة وكان يمكن اللجوء إليها، فكانت الأوضاع الأمنية رغم سوئها تسمح بنقل الأطفال من مكان إلى آخر. تنقّلت الوالدة، مع زوجها وعائلتها، طيلة خمسة عشر عاماً بين ثلاثة عشر منزلاً في لبنان بحثاً عن الأمن. من بيروت إلى عاليه ثم القماطية والنبطية ومناطق عدة في البقاع كشتورا وجلالة وبدنايل ورياق وصولاً إلى بعلبك إضافة إلى بغداد وباريس. الخطر الأكبر في التنقّل كان عبور خط التماس بين مناطق النزاع للوصول إلى المناطق الآمنة. كانت أم رامي تترجّل وأولادها من السيارة وتمشي بهم على طول خط التماس بينما يطفئ زوجها ضوء السيارة و يقودها وحيداً كي يجنب عائلته خطر القنصخمسة عشر عاماً قضتها العائلة دون استقرار في السكن والعمل، فمع كل رحلة للبحث عن الأمان كان الزوجان يخوضان معركة البحث عن لقمة العيش. الأم التي خاطرت كي تجنّب أولادها كأس الرصاص تـقف الآن مكتوفة الأيدي، فهي باتت عاجزة عن حمايتهم، وتشعر بأن شوارع المناطق اللبنانية كلها صارت خطوط تماس. وهي تخاف بعد كل ما عانته أن تتجرّع الكأس التي حاولت تفاديها في الماضي، وتتمنّى مريم العودة بالزمن إلى الوراء «لو كنت أعلم أن قدر الحرب مكتوبٌ على البلد، لما أنفقت المال على تنقّلاتنا بل كنت ادّخرته لإرسال أولادي إلى الخارج». الأولاد صاروا مضطرين إلى العمل والأحوال المادية لا تسمح بإرسالهم للخارج وما للوالدة العاجزة إلا توسّل السماء كي تحميهم.
تنتقد مريم خوفها، وتكتشف هذه السيدة العلمانية الانتماء والمناضلة السابقة «من أجل أمة عربية موحدة» هواجسها الجديدة، فالحرب ليست حربها ولا حرب أولادها، وما يحزّ في نفسها أن الانقسامات الطائفية تتعمّق، وهي لم ولن تنتمي إلى أي مجموعة طائفية«هل هناك أغلى من الحياة كي نضحي بها؟ وهل في الدنيا ما يسمو على هزيمة الإنسان لغريزة حب البقاء؟» يسأل طلال المولى، والسؤال له مبررات قديمة، فالوالد الذي هرب بعائلته إلى البقاع في ليلة من ليالي الحرب التي اشتد فيها القصف على بيروت، لم يتذكر طفلته الرضيعة النائمة إلا بعد وصوله إلى الحدث. ترك الوالد المصعوق باقي أفراد العائلة، وعاد تحت زخات الرصاص وضجيج القنابل أملاً بالعثور على طفلته حية. كتب الله النجاة لزينب ووصلت العائلة إلى البقاع سالمة لتخوض، كغيرها من العائلات، غمار التهجير بحثاً عن الأمن، فتنقّلت عائلة أبي إبراهيم من الضاحية إلى الروشة وانطلياس فبرج أبي حيدر و بلدات بقاعية.
لكلّ من الأولاد حصته في قلب والده وهو لا يفرّق بينهم، لكن اهتمام طلال اللا إرادي بزينب كان سبباً لغيرة إخوتها، وعندما يسأل الأولاد عن سبب تفضيله لزينب يجيب «بحبكم أدّ بعض»، لكن الوالد يدرك أن للطفلة التي أنقذها من فم الموت مكانةً أغلى من إخوتها. وعلى رغم أن الطفلة كبرت وصارت معلمة في إحدى مدارس بيروت إلاّ أن والدها استرجع خلال الأيام التي شهدت الأحداث صورة الطفلة التي ظلت وحيدة في المنزل، واسترجع صوت بكائها عندما عاد ليأخذها من المنزل.
«أرجوكم اتفقوا» يردد أهالٍ عايشوا الحرب الأهلية وخبروا أخطارها، هذه الجملة يكرّرونها ليسمعها السياسيين، «أيُعقل أن تطيح رصاصة طائشة ثمرة سنوات من العذاب والتضحية؟» تقول أم علي. أما أبو إبراهيم الذي أذلت الأيام هيبة جسده فيعلن بمرارة «الموت صار أهون».