إبراهيم الأمينسيمر وقت غير قصير قبل أن تتكشف خفايا الاتصالات الجانبية التي أجرتها قطر قبل أن تغامر وتنجح في التوصل الى إنجاز يعد الاكبر في تاريخ دبلوماسيتها. وإذا كان الجميع يأخذون الأمر من زاوية أن الدوحة تملك الآن وضعية تتيح لها التحرك بين المحاور الاقليمية والدولية المتواجهة، فإن الصورة قد تتجه نحو الإقرار بأدوار لقوى جديدة، مثل قطر وتركيا. فالأولى أبقت تواصلها الفاعل مع الغرب دون التورط في حروبه الاقليمية، فيما بدت تركيا ممثلة لشكل جديد من الاعتدال الذي لا يشبه اعتدال المحور العربي الموالي للولايات المتحدة الاميركية.
وبحسب متابعين، فإن اللحظة الاقليمية التي أتاحت لقطر أخذ هذه الفرصة، انطلقت من غياب البديل، إذ إن الولايات المتحدة ومعها فرنسا والاتحاد الاوروبي قد صاروا في موقع المنحاز بقوة الى فريق دون آخر في لبنان. كما أن عواصم أوروبية أخرى لا تريد التورط أكثر في الملف اللبناني وهي التي تبحث جدياً في مصير قواتها المنتشرة في جنوب لبنان. أما عربياً فإن مصر ومن ثم السعودية والأردن وحتى دولة الإمارات العربية المتحدة قد تحولت هي بدورها الى راع لفريق 14 آذار وإلى خصم فعلي لفريق المعارضة وسوريا. عدا عن أن سوريا وإيران في قلب المشكلة، ولم تعد هناك قدرة على خلق وسيط، وما عزز من تفاقم الصورة الموقع الذي احتلته الجامعة العربية خلال جهودها في الفترة الاخيرة. وربما يوجد في فريق الأمين العام للجامعة عمرو موسى من يرفض اتهامه بالانحياز، لكنه يقر بأن التفسير الذي أعطاه موسى للمبادرة العربية والذي خالف مطالب المعارضة، جعل موسى وفريقه في دائرة الاتهام التي جعلته أيضاً طرفاً، حتى إن معارضين أبدوا قلة ترحيبهم بوجوده في الدوحة نفسها. والكل يشهد على مفاوضات اللحظات الاخيرة في بيروت قبل إعلان اتفاق «الفينيسيا»، والتي شهدت مطالبة فريق المعارضة ولا سيما الرئيس نبيه بري بأن لا يكون لموسى أو الجامعة دور مركزي في مفاوضات الدوحة.
إلا أن نتيجة ما حصل، هي عدم توافر أي طرف خارجي يقدر على تحقيق الآتي:
أولاً: الحصول على ما يشبه فترة سماح إن لم يكن تفويضاً من العواصم العربية المعنية لأن يجرب حظه في لبنان.
ثانياً: الحصول على دعم جدي من عواصم القرار في العالم للقيام بما يقدر عليه وضمن فترة زمنية غير مقفلة أو محددة مسبقاً.
ثالثاً: أن يكون قادراً على التواصل وطلب الدعم حيث يحتاج، من الاطراف الخارجية القادرة على التأثير في الملف اللبناني.
رابعاً: أن يكون قادراً على إقناع الاطراف اللبنانية بأنه لا يعمل عند أي جهة من الجهات الخارجية المتخاصمة، وأنه ليس لديه الطموحات التوسعية التي يمكن اتهام آخرين من المصريين والسعوديين الى الإيرانيين والسوريين بأنها موجودة في حساباتهم.
خامساً: القدرة العملانية على إدارة حوار منهك دون أي مراعاة كما تحاول الدبلوماسية التقليدية، وقد فوجئ معظم المتحاورين بالدينامية الكبيرة لدى الفريق القطري الذي تولى المحادثات، أو إدارة المفاوضات. وهو فريق نجح في الانتقال من دور الوسيط الى دور القادر على اقتراح أفكار يرى أنها وسطية وتؤمن الحلول، كما كان بمقدور الإدارة القطرية أن تقول رأيها بصراحة لهذه الجهة أو تلك عندما تشعر بأن هناك حاجة الى التدخل.
ووسط هذه الاجواء، أتيح للقطريين أن يبادروا في اتجاه لبنان، ويبدو أن قيادة قطر أجرت اتصالات مفتوحة مع قوى عدة في العالم والمنطقة قبل دعوة اللبنانيين الى الدوحة، ثم ظلت على تواصل مفتوح مع عدد من الدول ولا سيما فرنسا والسعودية وإيران وسوريا حتى اللحظات الاخيرة قبل التوصل الى اتفاق. كما أن هذه الاتصالات أخذت بعين الاعتبار وبواقعية نتائج ما واجهه اللبنانيون منذ 5 أيار الماضي، والتعامل مع هذه النتائج بواقعية. وعندما اضطرت قطر لاستخدام بعض المناورات للضغط على هذه الجهة أو تلك، اكتشفت سريعاً أن هذه اللعبة لا تنفع مع اللبنانيين، فاضطرت الى العودة الى أسس التفاوض وبذل الجهود المباشرة مع المتحاورين توصلاً الى الاتفاق الذي أعلن. ويقول دبلوماسي عربي شارك في غالبية الاتصالات التي جرت إن محصلة التواصل مع الخارج كشفت في لقاءات قطر الآتي:
ـــــ تردّد سعودي وأميركي في الضغط على الفريق الحليف لهما في لبنان للتنازل سريعاً. وقد كان الى جانبهما كل من مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة.
ـــــ ترحيب سوري وإيراني على خلفية تقدير الموقف لدى قوى المعارضة، وقول القيادة السورية أكثر من مرة للوسيط القطري إن الضغط الذي تقدر عليه مارسته قبل انتقال المتحاورين الى الدوحة، وإنه لا يمكن دمشق أو لطهران ممارسة أي نوع من الضغط على العماد ميشال عون، وإنه يفضل محاورته مباشرة.
ـــــ ترحيب فرنسي وخصوصاً عند الرئيس نيكولا ساركوزي الذي يقال إن علاقته برئيس الوزراء القطري تشبه علاقة سلفه الرئيس جاك شيراك بالرئيس الراحل رفيق الحريري، وإن وزارة الخارجية الفرنسية أرغمت على الوقوف بعيداً والصمت والتوقف عن أي نوع من المداخلات أو الاتصالات التي كان البعض يريدها لاستصدار قرارات دولية ضد المعارضة في لبنان.
ومع ذلك فإن رئيس الوزراء القطري ظل يتحسب لاحتمال أن يلجأ أحد من العرب أو من العواصم الدولية الى خطوات تؤذي مبادرته أو تفجر الأزمة في لبنان. وهو أبلغ قيادياً بارزاً في فريق المعارضة بأنه يملك معلومات عن نية دول عربية التوجه من خلال الجامعة العربية الى الأمم المتحدة ومجلس الامن الدولي لاستصدار مجموعة من القرارات التي تقود الى نزع شرعية رسمية وعربية ودولية عن المقاومة والى تحميل المعارضة وسوريا مسؤولية ما يحصل في لبنان. وبرغم أن القيادي أبلغ محدثه أن المعارضة لا تخشى حصول ذلك لكنها تستبعده نظراً الى حسابات كثيرة ومعلومات لديها. إلا أن كل ذلك لا يلغي حقيقة أن قطر حققت نجاحاً سيكون له تأثير كبير على دور الجامعة العربية في ظل الانقسام القائم، كما سيفتح أعين القوى المتخاصمة في دول عربية وبين بعض الدول الى البحث عن مساعدة قطرية لمعالجة هذه الخلافات. فهل يتاح لها أكثر مما تعتقد؟