strong>يبقى أيار 1968 في ذاكرة الفرنسيين والعالم، خطوة حاسمة على طريق التغيير الاجتماعي الشامل ودليلاً على دور الطالب في تغيير صورة الدولة وكسر قراراتها. انتفاضة الطلاب في عيدها الأربعين، تعود إلى الفرنسيين حاملةً تساؤلات عميقة عن صورة الصراع المحلي والعالمي بين الشركات والطبقات وبين الأطراف، وتساؤلات أخرى عمّن يحدّد مفاهيم اليوم أمام مقياس الأمس
باريس ـ خضر سلامة
«لقد أدرك حينها كل العالم، أننا قادرون على احتلال التاريخ»، هكذا يستذكر سيباستيان، العجوز الستيني صور انتفاضة الطلاب في أيار 1968. «كنتُ في بدايات دراستي الجامعية، مأخوذاً بالأحلام الثورية كما كل رفاقي من أبناء ذاك الجيل، وكانت صور غيفارا وماو كافيةً لإغواء الآلاف من الباحثين عن تغيير»، يعدّل سيباستيان مقعده بكبرياء ملحوظة ويتابع: «كنا ننتظر البيانات الثورية من القيادة الطلابية، ونلاحق أخبار الرفاق والعمال في الجنوب والشمال والعاصمة، كانت فرنسا تشتعل بأحلام شبابها».
وبعد أربعين عاماً، لا يزال شهر أيار نقطة انطلاق المؤرخين في كتابة تاريخ الجمهورية الخامسة، حيث لم تكن التحركات التي أشعلت الشارع الفرنسي إلّا حلقة في سلسلة التحركات التي عمت العالم حينها، في غمرة النشوة الماركسية والثورية التي فرضت نفسها على ذاك العقد. أما في فرنسا، فالصورة كانت أكثر تطرفاً وفعّالية. ربما لم يكن الكثير من الطلاب حينها يدركون أنهم سيقلبون الشارع والقوانين، كانت الثورة معلنة ضد إدارة الجامعة وقوانينها، ومؤسسات الدولة وبيروقراطية الديغوليين في الحكم، والمجتمع الرثّ المنهك بتجاعيد ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فالجو كان مؤاتياً لتحريك الشباب الفرنسي، ولا سيما مع تعنت الإدارات التربوية وتعاميها عن التذمر الطويل من القوانين القديمة المطبقة، وترابط كل ذلك بالفكر الشبابي المأخوذ باليسار والتقدمية العالمية، والمعترض على حضور ديغول ومن ورائه الإمبريالية الأميركية.
هذه القنابل الموقوتة في الستينات، كانت قد تلاقت بقوة مع مادتين دسمتين، فبين حرب فييتنام و«رابطة فييتنام» التي انتشرت في المؤسسات التربوية، وبين التحركات المتواصلة ضد القوانين الاجتماعية وحقوق المرأة وضد المحافظين الذين ظلّوا يتمسكون بإرث الكاثوليكية الفاتيكانية المتطرفة، تحركات تمثلت باحتلال الشباب لمساكن الطالبات معترضين على منع الاختلاط، وتمثّلت في تكوّن وعيٍ نسائي رافض لكل التمييز والقمع ضد المرأة.
فبعد إضراب شارك فيه 10 آلاف طالب ضد القوانين الجامعية المستحدثة التي لم تلبِّ طموحاتهم، حاولت الجامعة نزع الفيزا من بنديت، وكان هذا كافياً لتحرك الشارع لأسابيع مطلع العام. تحركات كانون الثاني من عام 1968، أعطت الطلاب تصوراً عن قدرتهم على تحدي الأمن الفرنسي ذي الصيت السيّء حينها، وبدأت التحركات تتوسّع، وانتشرت الشعارات الشبابية، وصولاً إلى عيد العمال في أول أيار من تلك السنة.
ثم استمرت الإضرابات ثمانية أسابيع متلاحقة كانت تتصاعد فيها أعداد المشاركين حتى وصلت في ذروتها إلى اثني عشر مليون مُضرب عن العمل، وشلت حركة المواصلات وقطاعات الاتصالات والوقود والتجارة، فوجدت الحكومة الفرنسية بشخص رئيسها بومبيدو نفسها مضطرة إلى التدخل لدى الجنرال الحديدي ديغول لإقناعه بحل البرلمان والتنازل عن شوفينيته الشخصية.
انتهت ثورة أيار بإنجازات كثيرة، وإخفاقات كثيرة. «لم نحقّق الكثير، لكننا حقّقنا شيئاً»، على حد تعبير سيباستيان، «انقلب المجتمع رأساً على عقب، وسيطر الشباب بأحلامهم على كل مفاصل اليوميات وانكسرت كل المحرمات، وتغيرت قوانين الجامعات ورُفع الحد الأدنى للأجور وحُل البرلمان». يتنهّد قليلاً ثم يبتسم «لكننا لم نسقط النظام.. كان يجب أن يسقط».
سيبدو المشهد اليوم غير مشجع لذكريات العمال والطلاب، فنيكولا ساركوزي، القابع على رأس الجمهورية بفكره النيو ديغولي، حمل إلى السلطة مشروعاً بعنوان «تصفية انتفاضة 1968»، حيث يرى في تلك الانتفاضة، مَثله كمَثل اليمين الفرنسي، تاريخاً مخجلاً وفوضى غير مقبولة، وليس غريباً عليه أن يعلن أنّه ماضٍ في تصفية آثار انتفاضة الطلاب، و«إعادة القيم الأخلاقية التي هدمها الطلاب بطيشهم ولا مسؤوليتهم»، ماضياً في إعلان «القطيعة مع الماضي الثوري».
تصريحات ساركوزي تعيده إلى خانة الصراع مع اليسار الفرنسي ومن أمامه طلاب الجامعات الذين ضاقوا ذرعاً بالقوانين المستحدثة التي تستهدفهم وتطرح السؤال عن احتمال ثورة جديدة يكون مفتاحها العودة القوية للتسلط اليميني إلى عرش الحكم والنظم المؤسساتية الفرنسية.
«لمَ لا؟»، تجيب إيزابيل (20 عاماً) الطالبة في الحقوق في جامعة السوربون التي ترى «أنّ الطلاب الآن هم ضحية عمليات نصب واحتيال مارستها السلطات الرسمية على حقوقهم منذ التسعينات، وساركوزي يرفض الاستماع إلينا». ثم تتلفّت إلى زميلتها التي أعجبتها الحماسة في خطاب ايزابيل وتكمل قائلة: «نملك اليوم كل متطلبات التحرك الناجح، لقد صار الشاب اليوم إمبراطوراً إعلامياً صغيراً يملك قدرة التحريض وكشف التجاوزات عبر وسائل الاتصال والنشر والعلاقات الأوسع والأسهل». لكن صامويل (25 عاماً) الذي ينهي دراسته العليا في الرياضيات في جامعة لويس باستور، لا يوافق إيزابيل الرأي «فلنكن واقعيين، نحن نعيش في ديموقراطية، والرئيس الذي أتى، يمثّل كل الشعب، وهو يحكم ببرنامج يجب علينا التكيف معه، أو تغييره لاحقاً مع الدورة السياسية». فالطالب، بحسب صموئيل، يجب أن ينأى بنفسه عن الدخول في تحديات السياسة، لأن لا رابط حقيقياً يجمع مصالح طلاب فرنسا اليوم، كما جمعتهم الاشتراكية سابقاً، ثم «إنّ فرنسا مع نقلة العالم الحضارية في التسعينات، تتكيّف يومياً مع مستلزمات العالم الثقافية، وهو ما كان مفقوداً في أيار 68 واليوم، لدينا ما يكفينا من حرية وحداثة». «ما يكفيك وحدك»، يتدخل عامر، زميله في الدراسة ذو الأصول الجزائرية، «فرنسا اليوم تحتاج إلى خضة جديدة، لتمحو هذا الجمود الاجتماعي وتعيد إدخال بعض الأقليات إلى ذهنية المواطنية الفرنسية، والطلاب دوماً جاهزون لتحمّل الدور، نحتاج فقط إلى قيادات حقيقية».
ينفي أستاذ العلوم الاجتماعية باتريك شمول، احتمال حدوث تحرك طلابي جديد يستعيد أيار 68، فيقول: «علينا أن ندرك أن العالم تغيّر، وطلاب اليوم غارقون في رداءة الأوضاع وواقعون تحت القمع الإعلامي الذي يعتمد على كي الوعي وإلغاء الحس التغييري، ثم إنّ أوروبا الآن خارج دائرة الإرادة الشعبية وواقعة تحت ماكينة إرادة السوق، فليس هناك قيادات جاهزة للدخول في مشروع إصلاحي، وليس هناك أيضاً أرضية لوجستية أو فكرية لأي تحرك». تشاؤم يتململ منه زميله، ماثيو شنايدر «طلاب اليوم هم جزء من عالم مستعر وقابل للانفجار، والمادة الفكرية هي مادة متحركة وتفصيل هامشي أمام حجم الكبت الإعلامي والضغط الاقتصادي.. ربما التضخم الرأسمالي في نواحيه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم سيكون فرصة مؤاتية لصنع ثورة، أو لصنع محاولة جديدة».