رنا حايكتُجمع أدبيات الأديان الثلاثة والأساطير الإغريقية وملاحم بلاد الرافدين (جلجامش) على حقيقة وجود أب البشرية الثاني، الذي أنقذ كل الكائنات على الأرض من الاندثار. أكان اسمه أتوتنابشتيم، إينوخ، أو نوح، فقد أنقذ ذلك الإنسان ـــــ النبي الكائنات البشرية والحيوانية والطبيعية من فيضان عظيم ضرب حوض البحر الأبيض المتوسط في العصور القديمة. وضع في سفينته التي ما زالت المؤسسات العلمية حتى اليوم تصرف ملايين الدولارات لأكاديميين يحاولون تقصي حقيقة وجودها على جبل أرارات زوجين من كل صنف من أصناف الموجودات على الأرض ليقيها شرّ الانقراض.
لأن البيئة كيان متكامل، يجتهد العلماء والأكاديميون في المراكز العلمية مثل مركز «إبصار» لحماية التنوع البيولوجي وإرساء قواعد الانسجام بين الإنسان ومكوّنات بيئته الطبيعية.
أُسّس مركز إبصار عام 2002 على يد مجموعة من أكاديميي الجامعة الأميركية في بيروت، الواعين لقيمة التنوّع الحيوي كأصول جغرافية ثمينة في لبنان والهادفين إلى تطوير الفرص الاقتصادية المرتبطة بالتنوع البيولوجي، من خلال القيام بالأبحاث وعبر استخدام التكنولوجيا الحيوية. يحاول المركز، بجهود أعضائه الذين يصل عددهم إلى 40 من الأساتذة والطلاب والباحثين الشباب، إطلاق مشاريع تهدف إلى الحفاظ على التنوع البيولوجي في المناطق القاحلة عبر تعبئة المجتمع المحلي واعتباره جزءاً منها.
استند المركز إلى النقاط الأساسية التي نصت عليها اتفاقية الأمم المتحدة حول التنوع الحيوي لتحديد أجندته الخاصة التي قسّمت إلى أربعة محاور.
يتعلق المحور الأول بتوظيف التكنولوجيا الحيوية لخدمة المعرفة التقليدية لدعمها أو دحضها بالبرهان العلمي. في هذا الإطار، خلصت الأبحاث التي أقامها المركز حول زيت السارج (زيت السمسم الذي يطفو على سطح الطحينة) الذي يستخدمه الفلاحون في القرى لمداواة أطفالهم من السعال إلى أن هذا الزيت ليس أقل فعّاليّة ولا أكثر من دواء السعال الذي تصرفه الصيدليات.
كذلك، حدّد المركز مجموعة من النباتات في لبنان تحمل مكوّنات مضادة للسرطان بينما يبحث الآن عن أخرى مضادة للالتهابات ويتعاون لإنجاز ذلك مع جامعات ومختبرات أجنبية مع وعي أعضائه لحقّ لبنان بها وحفاظه من خلال اتخاذ تدابير عملية بالتنسيق مع وزارة البيئة تضمن ذلك الحق.
أما المحور الثاني، فيتناول تشخيص المكونات البيئية والمحافظة عليها. يحاول مركز إبصار التوصل إلى ذلك عبر مشروع «بذور الأمل وأشجار الغد» الذي أطلقه منذ عدة أشهر. فالكثير من الجمعيات والجهات تسعى إلى التشجير لكنه غالباً ما يكون تشجيراً عشوائياً من حيث نوع الشجر وأسلوب زراعته في خراج (تخوم) القرى مما يمنع قيام علاقة مباشرة بينها وبين المجتمع المحلي. لذلك، عمد القيمون على المشروع إلى إحصاء عدد الأصناف الشجرية التي تنمو في لبنان فوجدوها تبلغ العشرين وأدركوا أن الحفاظ على وجودها ضروري لمواجهة إفقار الغابات، فاتجهوا إلى تشجيع زراعتها بحسب المناطق البيئية وفي داخل القرى لتأسيس العلاقة المباشرة بينها وبين السكان المحليين الذين سيصبحون، بعد فترة من رعايتهم اليومية لها، حراساً لمخزون التراث الطبيعي وملّاكاً لبذورها يبيعونها فيستفيدون اقتصادياً من وجودها. لا يخدم هذا المشروع أهالي القرى فقط، بل إنه يؤسس لعلاقة على المدى الطويل بينهم وبين الأكاديميين، الذين سيتابعون نمو هذه الأشجار ورصد تفاعلها مع تغير المناخ والتصحر.
يركز المحور الثالث من اهتمامات المركز على النظر إلى المناطق بكل جوانبها الثقافية والاقتصادية والعملية ليكون المجتمع المحلي جزءاً من المشروع. ويتم حالياً في هذا الإطار البحث عن تمويل لمشروع إحياء شجرة الخرّوب والإفادة منها في الصناعات الغذائية والمنتجات المحلية للقرى التي تنمو فيها.
أما المحور الرابع، فيتعلق بتكريس الاستخدام المستدام للتنوع البيولوجي. في هذا الإطار، استحدث مشروع «أرض وناس» لتطوير وتسويق الصناعات التقليدية في المناطق اللبنانية ويعمل حالياً مع أهالي عيتا الشعب على تطوير صناعة صابون الغار.
كذلك، احتفى المركز للسنة الثانية على التوالي باليوم العالمي للتنوع البيولوجي (22 أيار) من خلال إقامة فعاليات «إبداع» التي يشارك فيها طلاب الجامعة الأميركية من مختلف الكليات ليقدم كل في مجاله إسهاماً يتعلق بالموضوع الذي يطرحه المركز. عمل الطلاب هذه السنة على الخروب: من طرح استخدامات جديدة له وابتداعها إلى ابتكار طرق تسويق منتجاته... يطرح الطلاب مساهماتهم ليعتنقها الصناعيون والباحثون ويطبّقوها، إذا ثبتت فعاليتها، على الصناعات المحلية في المناطق لدعم الصناعات الصغيرة. بذلك يكون المركز وحدة متكاملة يضع فيه كل مساهم خبرته في مجال اختصاصه للنهوض بالمعرفة المحلية مع المحافظة على الإرث الثقافي والبيئي والجغرافي للمناطق اللبنانية.