تستعيد أثيوبيا في 4 حزيران ـــ يونيو المقبل مسلة «أكسوم» التي كانت جيوش موسوليني نقلتها إلى إيطاليا في عام 1930. وتعدّ إعادة المسلة وغيرها من الآثار المسروقة سابقة قد تفتح الباب أمام عودة العديد من المسروقات الأثرية إلى بلادها الأصلية
باريس ـــ بسام الطيارة

في باريس، وعلى بعد عشرات الأمتار من «مسلة الكونكورد» المنصوبة في وسط ساحة تحمل الاسم نفسه، عُقد لقاء صحافي في اليونسكو لـ«شرح ووصف» عملية إعادة تثبيت «مسلة أكسوم» في موقعها الأصلي في شمال أثيوبيا في الرابع من حزيران المقبل. وأعلن مدير مركز التراث العالمي في المنظمة العالمية فرانسسكو بندران أن هذه العملية «تجري تحت شعار السلام». ومن المنتظر أن تدوم عملية تثبيت المسلة شهرين، على أن يقام احتفال في مطلع أيلول لتدشين عودة المسلة، التي يعود تاريخها إلى ما بين القرنين الثالث والرابع ميلادي، إلى وطنها، كما يقول أكثر من مسؤول أثيوبي.
وكانت جيوش المستعمر الإيطالي في عهد موسوليني قد «نقلت» مسلة أكسوم التي تزن ١٥٢ طناً ويبلغ طولها ٢٣،٤ متراً إلى إيطاليا إبان «غزوة أثيوبية» في عام ١٩٣٠، ورفعتها أولاً في نابولي قبل أن تنقلها إلى وزارة الدول المستعمرة وسط روما. ورغم أن مبدأ إعادتها كان قد ذكر في «معاهدة وقف القتال» بين البلدين عام ١٩٤٧، إلا أن إيطاليا ظلّت ترفض الانصياع له حتى عام ٢٠٠٥، حيث وقّعت اتفاق «مبدأ الإعادة والنقل والتثبيت ودفع التكاليف»، وهو ما رآه البعض «سابقة» يمكن أن تفتح أبواب «عودة المسروقات الأثرية إلى بلادها الأصلية».
ومن المعروف أن عدداً كبيراً من البلدان، التي شهدت عملية سلب لآثارها منذ قرنين ونيف، تتابع مصير «التحف المبعثرة في الدول الأوروبية»، وتسعى «لإقناع أو إجبار» الدول المعنية، التي هي بطبيعة الحال «الدول المستعمِرة السابقة»، على إعادتها إلى بلادها الأصلية. وحسب بيانات عدة، فإن تكلفة عملية الإعادة والتثبيت تبلغ حوالى ٣،٢ مليارات يورو ستتولى إيطاليا دفعها.
وتُعدّ مسألة الآثار أحد أهم الملفات التي تتناولها منظمة اليونيسكو، لما فيها من شحن عاطفي مربوط بنفس سياسي، معطوف على أهمية سياحية، وبالتالي اقتصادية تحزمها حبال التاريخ وكتابته. وتعقد اجتماعات دورية في شأن مسألة الآثار، كان آخرها اجتماع للخبراء في أثينا قبل شهرين لمناقشة «إعادة الممتلكات الثقافية إلى بلادها الأصلية». وتعبير «ممتلكات ثقافية» هو المستعمل حالياً بغرض إبعاد «صفة المادية» عن هذه الآثار، مما يعطيها بعداً ثقافياً فكرياً يساهم حسب البعض بـ«جعل المناقشات بعيدة من الاعتبارات المادية والسياسية الرخيصة»، بينما يرى آخرون أنها بهدف «تسويف المسألة ضمن سياق التنوع الثقافي، ما يترك الأبواب مفتوحة لتنازلات من الجهتين».
وكانت وزارة الثقافة اليونانية التي نظمت الدعوة بالتعاون مع اليونسكو، وبحضور رئيس الجمهورية اليونانية كارلوس بابولياس، قد وضعت على طاولة المناقشات بند «دراسة عدد من الحالات لإعادة الممتلكات»، ودراسة الأسباب التي أتاحت تحقيق النجاح في بعض الحالات وفشلها في البعض الآخر. ومن المعروف أن اليونان، إلى جانب مصر، هي من الدول التي تعرّضت إلى «عملية نهب منظمة لتراثها الأثري منذ... العصر الروماني». وأبرزها لوحات معبد الأكروبول التي «سُرقت» في القرن التاسع عشر عن واجهات المعبد، وهي معروضة اليوم في قاعة خاصة في المتحف البريطانيوقد تطرّق الاجتماع إلى «نجاح إعادة مسلة أكسوم» من إيطاليا إلى أثيوبيا، وإعادة الطيور الحجرية من ألمانيا إلى زمبابوي، وإعادة بقايا بشرية إلى سكان «نغارينغيري» الأصليين في جنوب أوستراليا. كما ناقش المجتمعون الجوانب الأخلاقية والقانونية و«الوساطة»، إلى جانب «الدبلوماسية الثقافية» وسياسة المتاحف المتبعة في تعاملها مع الدول التي تطالب باسترجاع ممتلكاتها الأثرية، إضافة إلى حماية المواقع الأثرية.
وكانت اليونسكو قد أنشأت عام ١٩٧٨ «اللجنة الحكومية الدولية المهتمة بالممتلكات الثقافية» لتوفر إطاراً للنقاش والتفاوض بشأن إعادة هذه الممتلكات الثقافية أو ردّها بين الدول التي تمثّل مجموع أعضاء اللجنة، وهي ٢٢ دولة، مع العلم أن دور هذه اللجنة يبقى استشارياً محضاً، ويتمثل في إقامة حلقات للنقاش وتقديم توصيات غير ملزِمة قانونياً.
ويتوقع أكثر من مراقب أن يُفتح خلال السنوات المقبلة أكثر من ملف يتعلق بإعادة الممتلكات الثقافية إلى بلادها الأصلية. ورغم كون مسألة «مسلة الكونكورد ليست على طاولة البحث» حسب ما يردده أكثر من مسؤول فرنسي، إلا أن البحث جار عن «تعويضات أدبية ومالية» يمكن تقديمها لمصر ولبعض الدول.
وكانت «هجرة المسلات المصرية» إلى عواصم الدول الأوروبية والأميركية قد بدأت فى بداية القرن التاسع عشر، على يد شخصيات أوروبية فيها خليط من علماء الآثار ومحترفي الحفريات وتجار الآثار والمهرّبين المحترفين لصالح عصابات تسترّت عليهم الحكومات الغربية لمعرفتها بـ«أهمية نقل هذه الممتلكات إلى خارج مستعمراتها».
أما مسلة الكونكورد التي باتت تمثّل قطعة من «التراث المنظري لمدينة باريس» وتكملة لرؤية جادة الشانزيلزيه الرائعة، فهي نقلت من أمام معبد الأقصر حيث شيّدها رمسيس الثاني في عام ١٢٨٠ قبل المسيح، ويبلغ وزنها ٢٣٠ طناً، نقلها ليباس المهندس الفرنسي إلى باريس عام ١٨٣٦ على متن السفينة دورماير من الإسكندرية إلى مارسيليا، حيث نقلت على زحافات حتى الساحة الشهيرة في وسط باريس.
ومن المعروف أن فرنسا «نقلت» ثلاث مسلات أخرى من مصر نصبت في فونتينبلو خارج باريس وفي ضاحية فانسان الشرقية وفي مدينة أرل في الجنوب.
وفي سياق التعاون الثقافي الدولي والبحث عن أفضل «سبل لتعويض ما لا يمكن إعادته»، يتحدث البعض عن إمكان «إشراك الدول الأصلية في محاصصة الدفق الاقتصادي المالي» الذي تعود به هذه الممتلكات الثقافية، كتخصيص نسب مئوية من مردود المتاحف التي تعرض فيها تحف تعود لتراثها، أو مشاركة البلديات التي تعرض فيها هذه الآثار «المنقولة» مالياً في «مشاريع تعويضية» في هذه الدول.
كما يتحدث البعض عن مشاريع تعاون لإصلاح آثار البلاد الأصلية وإعادة ترميمها وحمايتها على نفقة الدول التي تحوي آثاراً لا يمكن إعادتها، مثل مشروع «إعادة توحيد تمثال من المرمر يرقى إلى العصر الذهبي للحضارة السومرية»، وهو مشروع تعاون بين متحف اللوفر في باريس ومتحف ميتروبوليتان في نيويورك، يتم لصالح متحف بغداد للتعويض عن «كمّ هائل من الأثريات المنهوبة». إلا أن قصة أثريات العراق موضوع آخر يتجاوز بكثير واقع الماضي، فهو حاضر ويمثّل ملفاً لم يُفتَح بعد.


لبنان في العالم

عرف لبنان خلال القرنين الثامن والتاسع عشر اكتشافات أثرية لمقابر ملكية فينيقية وإغريقية. في صيدا مثلاً أخرجت نواويس تعد من الأجمل في العالم، ونقلت إلى اسطنبول عاصمة الامبرطورية العثمانية التي عدّت نفسها في حينه مالكة هذه الآثار. ولا تزال هذه الروائع معروضة في متحف اسطنبول، كما أن باقي الدول الأوروبية كانت قد وقّعت اتفاقية مع اسطنبول تقضي بأخذها التحف التي تعثر عليها، مما أوصل مئات الآثار الفينيقية والرومانية والإغريقية إلى المتاحف الأوروبية التي تعرضها هي الأخرى.
ترى هل سيحاول لبنان يوماً استرداد هذه الآثار؟