أنسي الحاجمبروك.
لا يهمّ إلى متى. صرنا نحن والموقّت واحداً. لا نطمح إلى أكثر من بضعة أنفاس.
شكراً يا أولاد على إطاعة مدير الدوحة.
صحافي سعودي أبدى إشفاقه قبل أيام على خزينة قطر من «طموح» الساسة اللبنانيين قائلاً إن البنك المركزي الألماني كلّه لا يُشبعهم. هذا الصحافي النشيط كتب قبل عام ما معناه أن الأمور بين الرياض ودمشق ظلّت تماماً طيلة حكم حافظ الأسد لأن الأخير كان يُحسن التصرّف، بينما جاء ابنه يتلفّظ بعبارات فظّة من نوع «أشباه الرجال». يا للهول. وهذا، في رأي الصحافي، هو ما كسر الجرّة بين السعودية وسوريا. أي إن لبنان كان قد أصبح إقطاعاً سوريّاً بمباركة السعودية لأن صاحب دمشق كان مهذّباً ناعماً مع أصحاب المملكة. ليت بشّار الأسد نطق بجوهرته هذه من سنين لكان جيشه غادرنا على الناشف ولكان الحريري ما زال حيّاً.
مبروك إذاً. كالعادة مات مَن مات. و«أهدى» الرئيس بري إلى من يعنيهم الأمر، وفي الطليعة أصحاب قطر، رفع الاعتصام من قلب بيروت. ليت جميع ذوي المبادئ يهدون إلى هذا الشعب بعضاً من مكرماتهم، كأن يتنازل أحدهم عن تلقيننا الدروس وزميله عن الإصرار على التنكيت. مات مَن مات، ومَن عاش ليس مصيره أفضل كثيراً. لن يرتاح أهل هذه البلاد إلاّ، ربّما، بترسيم حدودها المنظورة وغير المنظورة. المنظورة طبعاً مع سوريا وإسرائيل وغير المنظورة أيضاً مع سوريا وإسرائيل. وطبعاً مع خلفيّاتهما وحلفائهما.
رجع الأولاد من دوحتهم فرحانين. كلّهم كانوا من الأساس لا يَنْشدون غير التفاهم. لا غالب ولا مغلوب، كما قال أمين عام الابتدائيّة الأستاذ موسى. سقى الله عظامك يا صائب سلام، كنت تظنّها شعاراً لحينه، وإذا بالشعار إلى الأبد. وطن الأرز والفِتَن غبّ الطلب إلى الأبد.
باقية ساعات قبل انتخاب الجنرال سليمان. مبدئيّاً. يصمد البلد ساعات؟ وبعد الانتخاب حكومة، يصمد حتى تشكيلها؟ وبعد الحكومة انتخابات... لماذا!؟
مبروك أيّها الشعب الموقّت.


لستَ أنت

أيّها اللبناني قُلْ لنفسك لستَ أنتَ مَنْ خَدَع وكَذَب بل أنت مَن قام من هزائم الخداع والكَذِب.
حتّى أنت الشريك في السرقة والقتل، قل لنفسك إنك لو أوتيتَ مَن يسوسك بالفضائل لما شاركتَ في السرقة والقتل. أيّها اللبناني، لستَ أنتَ مَن حطّم لبنان حتى لو نفّذتَ ذلك بيديك، بل هؤلاء الذين مهّدوا لذبحه بالأثَرَة والغباء والفساد والتعصّب ثم أجهزوا عليه حين انبطحوا تحت سلطة الإرهاب الفلسطينيّة فالميليشياويّة فالإسرائيليّة فالسوريّة وكتموا أمامها صوتهم الذي ما اعتادوا أن يَفْجروا به إلاّ في وجوه العُزّل.
أيّها اللبناني أحاول أن لا أرى فيك اللحظة غير حسنات،
ولكنْ حاول أن لا تعيدها.
حاول أن تجمع شرفاءك إلى شرفائك، وفقراءك إلى فقرائك، من الضاحية الجنوبية كانوا أم من عكّار وزغرتا وجزّين والضنّية.
حاول أن تجتمع حول نيران أوجاعك، انصبْ خيامكَ في قلبك، في صميم أحلامك، وابقَ هناك إلى أن ييأس أصحاب لبنان وأصحاب سوريا وأصحاب إيران وأصحاب السعودية وأصحاب إسرائيل وأصحاب أميركا وجميع عمّال المعسكرات والمحاور، من إمكان مواصلة الضحك عليك.
أيّها اللبناني الذي أجهل، الذي أتخيّل، أيّها اللبناني الغائب، أيّها اللبناني غير الموجود أتوسّل إليك...


في صدر الجدّة

... ليت أرضنا موطن للعواصف، يطول شتاؤها ويطول، لا يتوقّف زخّ المطر إلاّ لتهدر الريح!
الرياح لا يحاكيها غير ذُرى الموسيقى، والأغنيات الدافئة تزداد تمكّناً منّا مع ارتعاشات الصقيع.
بطّانيات الغيوم أَحنّ من إشراق تمّوز وصحراء سمائه.
الرياح الوحيدة، الرياح المولولة المعزولة، تتخدّر بها أعصابنا كأنّها هَدْهدة، وتستقـــبلها كما تُسْتَقبل جوقات الملائكة وأوركسترا السمفونيات.
هديّة الشتاء ليست الخصب بل النظافة، ومرادفه ليس الصقيع بل الدفء.
كان أمين نخله يسمّي الجبل «بيت الشتاء»، ويجيد في وصف طفولته هناك، في بيته ليالي كانون، «وأذكر أن المطر (...) كان يَنصبُّ على بيتنا في جلبةٍ وقوّة، وكانت الريح خَلَلَ ذلك تصطخب وتهضب، ويُسمع لها في بعض المنافذ أصوات كحزّ السكّين. فطاب الموقد في الزاوية بألف جمرة وبألف حديث على الخير الهاطل. وكنت لا أستشعر الدفء ولا أحسّ النّعس في تلك الليالي من طفولتي إلاّ حين يكون نصفي على المقعد ويكون رأسي في صدر جدّتي ــــــ فالطفولة أدرى من غيرها بموضع الحرارة».
يزعم متظارف إسباني أن استطابة أيام الشتاء إنما هي من خصال أهل الريف والمعمّرين المئويين. إذا كان كذلك فكم من الأطفال يولدون معمّرين! ويقول آخر إنه يكره الشتاء لأن الشتاء يَكْره الجسد: «الصقيع درس من دروس الأخلاق المتزمّتة». ينطوي هذا الرأي على جهل بأمزجة الجسد، وعلى التوهّم بأن حرارة الصيف حليفة التعرّي. والواقع أن حرارة الصيف مَصْدر اللزوجة وغيرها من مبيدات الرغبة، وملابس الشتاء هي الفخّ الذي تَنْصبه الأجساد، والبرود حافظ كالثلاّجة، ولمحةُ عريٍ من خلال معطفٍ خزّانُ إثارة، فيما شعوب اللحوم المستلقية في المسابح لا تبعث إلّا على تَخيُّل مفاتن امرأة مرتدية.
... ومَن ذا يحتاج إلى الفصول كي يختار طقسه؟


عابرات

ما لا يُنهيه العمر تُنهيه الحادثة، وما يعجز عنه الاستهزاء يقوى عليه السأم، وما لا يغلبه شيء يغلب نفسه بنفسه.

لكلّ حالة لحظة وتنطوي، إلاّ الخيال: صَدْرُه لَهَبُ الاجتياح وظَهْرُه جمر الذاكرة.

كانت صفة الألوهة تُنْسَب إلى الفراعنة والقياصرة وقلّما يستفظعها الشعب. كان ما نسمّيه القَدَر يقوم مقام الغيب: الشعب يتفقّد قَدَرَه في المَلِك الإله والملك يتحسّسه بمتانة قبضته. معاهدة محدودة المعالم لكنّها مُريحة. الأديان عمّقت السماء وقصّت رأس المنظور. فصلت بين الشعب والإله لا بعرش بل بفردوس مفقود. وكان الأمل بالإله محدوداً ولكن أيضاً اليأس من الإله كان محدوداً.
صار الأمل أعظم. وكذلك اليأس.

ما أسوأني! أعداء أعدائي هم أيضاً أعدائي!