جان عزيزللمرة الثالثة تُفتح الطريق بين اليرزة وبعبدا، وللمرة الرابعة تتجنّب الرئاسة «زعيمها» لتكتفي بالتسوية وتقتنع بالرئيس، وللمرة الخامسة يذهب «أهل» الرئاسة و«آلها» إلى الخارج بحثاً عن طبخة لها، معلنة أو مُضمرة...
لكن بين المرّات الثلاث والأربع والخمس، ثمة فرق أساسي ممكن اليوم، إذا ما جرى الاعتبار من دروس الماضي وتجارب السوابق. أوّلاً الاجتياز الثالث لصاحب العمادة إلى صاحب الفخامة، لا بد أن يتوقّف مطوّلاً عند سابقتَيه الماضيتين.
الأولى كانت عام 1958 مع فؤاد شهاب، إثر أحداث تلك الحقبة، كثيرة ربما مماثلات المرحلتين، وسيسيل حبر كثير حول مقولة «شهاب الثاني» تماماً كما سال طيلة الأعوام الأولى من عهد إميل لحود الذي مثّل سنة 1998 السابقة الثانية في الانتقال من اليرزة إلى بعبدا.
لكن عِبَر التجربتين تبقى الأهم، فرغم كل ما يُحكى ويكتب عن ظاهرة فؤاد شهاب رجل الدولة وباقي المؤسسات، يظل ثابتاً، كما يقول شهابيّ عتيق، إن «اللواء الأمير» لم يحكم فعلياً غير عامين اثنين. فسنة 1960 رتّب له «الشباب» بعض نتائج الانتخابات النيابية، فبدأت الانهيارات، أواخر العام نفّذ القوميون السوريون محاولتهم الانقلابية، فانتهوا إلى السجون المركزية، وانتهى فؤاد شهاب نفسه إلى «سجنٍ» من نوع آخر في صربا. جاءه انطون سعد ناصحاً ــــ وهو العارف من موقعه في المكتب الثاني ــــ بجعل مكان نومه حتى في غرفة خلفية، أقيمت له ثكنة صربا لحماية الرئيس، وبدأ لبنان كله يتحول ثكنة كبيرة، لحماية «نهج» الرئيس، حتى كان ما كان سنة 1970.
تجربة إميل لحود لم تكن أفضل، عامان اثنان حاول فخامة العماد الثاني الحكم فيهما، علماً أن العارفين يقولون إنهما كانا فعلياً عامي «العهد المرّ». سنة 2000 جاءت الانتخابات النيابية سقط العهد، ولم يتوقف مسلسل الانهيارات حتى انتهائه ممدّداً وبالفراغ.
ماذا يمكن الجنرال الثالث أن يعتبر من تجربتي سلفَيه؟ أن سيطرة القوة ــــ ولو داخلية رسمية ــــ أسقطت سلفه الأول، وسيطرة القوة الخارجية الوصيّة، أسقطت سلفه الثاني. عبرة سهلة في الشكل، لأن ميشال سليمان يأتي إلى بعبدا متخفّفاً من كل أشكال المكتب الثاني، ومن كل أنماط البوريفاج وعنجر، لكنّ العبرة تظل واجبة بأن القوة تُسقط في لبنان، لا تُعلي. أما المرّات الثلاث السابقة، التي شهدت تقدّم «الرئيس» على «الزعيم»، فتبدو عِبَرُها أكثر دقة وحساسية، المرة الأولى عام 1952، كان الزعيم المستحق للرئاسة حميد فرنجية، فجأةً دارت روليت الحظوظ والتركيبات الخارجية فنام نائب زغرتا رئيساً، ليستفيق كميل شمعون ومعه لقب الفخامة، والثانية كانت عام 1970، فرغم البوانتاج الضيّق آنذاك بين «النهج» و«الحلف» كان ثمة انطباع بأن المستحق هو «الزعيم» ريمون إدّه، لكن الرئيس كان سليمان فرنجية مرشح التوافق بين «الحلف» و«تكتل الوسط»، لتظل السابقة الثالثة سنة 1982، يوم خطف الاغتيال «الزعيم ـــــ الرئيس» الوحيد، بشير الجميل، ليظل شقيقه رئيساً وحسب.
في المرات الثلاث، قيل إن عقدة «الزعيم» ظلّت تلاحق «الرئيس». شمعون زايد على عروبة حميد بيك، حتى صار فتاها الأغرّ. ما اضطرّه إلى المزايدة مرةً ثانية في اتجاه مناقض، صوب مشروع أيزنهاور، فانفجر البلد، سليمان فرنجية، يحكى أن وضعه لم يكن بعيداً. طبعاً لم تهجسه «زعامة» العميد، ولم تتفوّق على «فخامة الرئيس»، لكنّ المزايدة ظلّت قائمة في بعض الفكر والممارسة الزعاماتية، حتى انفجر الوضع مجدّداً سنة 1975.
أما مع أمين الجميل، فقيل إن طيف الشهيد الرئيس القائد المستحق المورث، كان مقيماً دوماً في بعبدا، ومسافراً مع الرئيس لا يفارقه وصولاً إلى واشنطن نفسها، واشنطن «الضوء الأصفر» و«قصف دمشق»، حتى سقط العهد.
وليست مصادفة، أن يكون الرؤساء الثلاثة الذين تعايشوا مع أطياف «زعماء» تقدّموا عليهم، اضطرّوا ـــــ أو كادوا ـــــ إلى أن يغادروا مقرّ رئاستهم. كأن الأطياف فيه تلاحقهم، أكثر من الأخصام والأعداء. كميل شمعون ترك القنطاري. سليمان فرنجية غادر بعبدا الى الكفورة، وأمين الجميل كاد يترك القصر أيضاً، لولا عناده، ولولا قائد للواء في الجيش اللبناني، وقف عند سوق الغرب، على تخوم القصر والرئاسة والوطن، حارساً.
ماذا لميشال سليمان أن يعتبر من تجارب الزعيم والرئيس السابقة؟ له أن يعرف كيف يتبع تكاملية الاثنين، لا تنافسيتهما.
وأن يدرك أن الرئاسة تأتي في لحظة وتستمر عهداً، بينما الزعامة تنسج في تاريخ وتبقى عمراً وحياة، لكنّ الأهم أن لكل من الموقعين مهمة أساسية للخير العام ومصالح الناس، والنجاح فيها يفتح الطريق بين الرئاسة والزعامة، أو العكس.
تبقى تجارب الطبخ الرئاسي في الخارج، وللحديث فيها وعنها صلة.