فداء عيتانيحين كان منزل الشيخ زهير الجعيد يحترق، وابنه يفرّ تحت نيران المهاجمين في إقليم الخروب، كان الشيخ نفسه في مكان آخر. كان الرجل يرى بأمّ عينه سقوط تيار المستقبل تحت ضربات حزب الله والمعارضة في بيروت، ولكن لم يكن بالإمكان إحداث فرق جدّي في المعادلة السياسية القائمة على الأقل في المناطق السنّية، ورغم محاولات جبهة العمل الإسلامي الاختراق في مناطق الانتشار السنّي، لم تحقق ما كانت تطمح إليه هي والعديد من الأطراف في المعارضة.
بعيداً عن الجعيد، يقدم عدد من المسؤولين الوسطيين في المعارضة قراءة لما جرى من حوادث خلال أيام المعارك في بيروت وجبل لبنان، ونتائجها السياسية، وحين تلام المعارضة على قانون الانتخاب السيئ والمذهبي الذي وافقت عليه، فإن أحد القادة الذين لعبوا دوراً رئيسياً في الحوادث يردّ اللوم بالقول «أنتم رجال الصحافة تقولون إن السياسة هي فن الممكن، وما قامت به المعارضة كان يمكن أن يكون أكبر وأهم وأفضل لو كانت بعض القوى ولا سيما السنّية، على قدرة وجهوزية واستعداد، وفي الظروف المتوافرة فإن ما أنجز هو أفضل الممكن، وخاصة مع إصرار الموالاة على رفض التقسيمات الإدارية».
«قبل الحوادث كانت تظهر لنا قدرات تعبئة تيار المستقبل على حقيقتها، ولم تكن أكثر من فقّاعة تمّ ضخ المال فيها وأشبعت بالتحريض المذهبي، وببعض السلاح وتدريبات هنا وهناك وفي بعض المراكز الدينية، كما حصل في البقاع. وكانت قوى المستقبل أعجز عن الصمود في وجه أية عملية جدية» يقول أحد مسؤولي المعارضة، ويتابع أن هذه الفقّاعة كان معلوماً أنها حين انفجارها مذهبياً سرعان ما ستختفي، وحين اندلعت بداية المعارك كان أمام المعارضة فرصة الإمساك بالأرض، ولكن القوى السنّية في المعارضة تركت، للأسف، شارعها وناسها، وتراجعت في انتظار أن يحسم حزب الله الأمور وحده.
يعود العديد من قادة المعارضة إلى الأسابيع السابقة ليوم السابع من أيار، حين بدأ الأطراف السنّة المختلفون يلمسون تحولاً في موقف الشارع منهم، واقتراباً من المعارضة ومن تجمعاتها التنظيمية، رغم عدم قدرة هذه التجمعات على منافسة التقديمات المستقبلية، أو توفير فرص عمل أو تجنيد الشبان في الشركات أو أجهزة الدولة الأمنية. ولكن، عند اندلاع الاشتباكات، تغيّر المشهد، ولم تتمكن قوى المعارضة من الاستفادة من جو سنّي بدأ بالتحول لمصلحتها، كما لم تتمكن من الوقوف على قدميها. وانطبق ذلك في كل مناطق الانتشار من عكار إلى أقصى قرى العرقوب.
المسؤول في المعارضة، والذي كان يدير إحدى غرف العمليات التي تربط حزب الله بسائر أطراف 8 آذار، تلقى العديد من الاتصالات، وربما آخرها اتصال فتحي يكن بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله خلال مؤتمر الدوحة، حين طالب يكن نصر الله بالتنازل في موضوع الدوائر في بيروت لتسهيل التسوية، وهو ما حصل فعلاً.
ومن خلال الاتصالات التي كان هو مركزها يعرف المعارض ما حصل ميدانياً، حين انهارت مجموعات المستقبل في مناطق الجبل، وتحديداً إقليم الخروب انهياراً كاملاً مساء الخميس في الثامن من أيار، وصباح الجمعة 9 منه. ومع سقوط بيروت، كانت المجموعات التابعة للمستقبل تطلب من المعارضة تسلّم سلاحها، وأطلق الشيخ زهير الجعيد نداءه لتسليم سلاح تيار المستقبل في إقليم الخروب إلى الجيش، وكانت الأمور تسير على ما يرام، والعشرات من المقاتلين من جبهة العمل الإسلامي بقيادة الجعيد ينتشرون في المنطقة وإن كان سلاحهم لا يسمح بخوض معركة قاسية.
إلا أن أحداً من القوى السنّية في المعارضة لم يتحرك كما يفترض بمسؤولين جديين التصرف، فلم يصدر بيان يطالب بوقف القتال في مناطق أعلنت تسليم سلاحها أو أبدت رغبتها بذلك، ولم تنزل مرجعيات سنّية معارضة إلى الشارع لبعث الطمأنينة في النفوس وإعطاء الأمان لمن يرغب من المقاتلين ولا سيما القادمين من المناطق المختلفة، أو تسلم المعتقلين الذين وقعوا بين أيدي المعارضة ولا سيما حزب الله وحركة أمل. للأسف لم يحصل شيء من ذلك، وكان إقناع أحد قادة جبهة العمل الإسلامي بعقد مؤتمر صحافي وإعلان رفض دخول أية قوات من المعارضة إلى المناطق السنية والإشارة إلى دور المعارضة السنية يتطلب جهداً خارقاً، أضف أن الطلب هذا غرق في حسابات محلية ضيقة وسياسية بدأت بمحاولة جمع رموز سنية بعضها إلى بعض وانتهت بحسابات رئاسة الحكومة المقبلة قبل أن يعقد المؤتمر الذي طبعاً لم يعقد حتى الساعة.
كانت المناطق الأخرى أفضل حالاً كما يرى رجل المعارضة، حيث تمكن العماد عون من القول إن مناطقه، وبفضل التفاهم مع حزب الله، لن تتعرض لأية عمليات عسكرية ما لم تقم القوات اللبنانية باستفزازات متعمدة، وفي وقت لاحق تسلم رئيس الحزب الديموقراطي اللبناني طلال أرسلان، وبعد بداية معارك الشوف، أمن المناطق الجبلية، ومن قاوم من قوات الحزب التقدمي الاشتراكي تعرض لضربات قاسية كمقتل نائب مسؤول الأمن في الحزب بعد إصابته وإدخاله إلى المستشفى باسم عسكري. وهو ما كان يسمح لأرسلان برفع سقف خطابه والقول إن الأولوية لتكليف المقاومة وليس لتكليف النائب وليد جنبلاط.
إلا أنه، وبين زعماء السنّة المعارضين، كانت إضاعة الفرصة هي القاسم المشترك، ومع وصول الوقت إلى بعد ظهر السبت 10 أيار، أي حين بدأت التحركات في الشمال تأخذ الطابع الثأري لما حصل في بيروت، وكذلك في البقاع، لم يتدخل عملياً أقطاب المعارضة السنّية في المناطق حيث هم لا للجم التوتر ولا لتعديل ميزان القوى. وكانت الفرصة التاريخية لظهور زعامة سنّية قوية مقابل الزعامة الحريرية المتهالكة قد ضاعت وإلى الأبد كما يبدو، إذ كان بإمكان أي من الزعامات السنية المعارضة أو حتى الوسطية أن تدخل إلى الحلبة السياسية، ودائماً بحسب المسؤول المعارض، لتقول وعبر الإعلام إن مناطق معينة قد سلمت وهي تحت رعايتها ورعاية الجيش وتطالب بتسلم المقاتلين فيها. «وكان المطلوب أن يثبت زعيم واحد قدمه في الأرض وأمام المعارضة والموالاة ليحصد زعامة سنية».
وبدل الخطاب السياسي لسنّة المعارضة، كانت المراجع السنّية التقليدية تقف لتندد بما قامت به المعارضة بشكل عام، محاولة الوقوف في الوسط، علماً بأن مواقفها دعمت الموالاة، وبدأت حالة من الانتعاش لقوى المستقبل، وبعدما كان الحوار في إقليم الخروب حول تسليم سلاح المستقبل، وكيفية القيام بذلك، وادّعاء أحد نواب الموالاة في المنطقة أنهم لا يملكون السلاح، «ولكن إن كان تسليم السلاح سيحل المشكلة فنحن مستعدون لشراء مخازن من الأسلحة وتسليمها إلى المعارضة»، أصبحت الدعاية السياسية في الإقليم تشير إلى أن الشيخ زهير الجعيد يحاول سحب سلاح القرى للسماح للشيعة بالدخول وتصفية السنّة كما حصل في تشييع الجنازة قبل يوم واحد قرب مقابر الشهداء في بيروت.
والتفت الجعيد حينها فلم يجد حوله من المعارضة أحداً، بل إن المعارضين في منطقته كانوا يؤكدون أمام المستقبليين أنهم لم يتورطوا في الدعوات لسحب السلاح من إقليم الخروب.
ولا يتوقف إهدار الفرص عند هذا الحد، بل يتواصل إلى اليوم، حيث يقول أحد الزعماء الذين لعبوا دوراً رئيسياً في الحوادث إن السنّة باتوا يطالبون بمقاعد وزارية وأخرى نيابية، بينما سبق أن أضاعوا على أنفسهم وعلى المعارضة فرصة الجلوس إلى طاولة الحوار معها منذ أيام الحوار الأولى في الوسط التجاري، فحينها رفض بعضهم الجلوس مع البعض الآخر وتشكيل تكتل نيابي موحد لانتداب ممثل عنهم إلى الحوار، وهذه الخسارة لا تزال مستمرة.
وفي مجال استمرار إهدار الفرص يقول مسؤول معارض إن المعارضة السنّية لا تزال تراهن على أن يقدم لها حزب الله الرافعة التي تدفعها دفعاً، ودونما جهد منها، إلى السلطة، بينما العمل وسط الشباب وفي المناطق لا يزال محدوداً. فيما المطلوب رفع وتيرة العمل لاستقطاب التهاوي الذي عاشته ولا تزال تعيشه الحريرية بنسختيها الحربية والتنظيمية، إضافة إلى السياسية وتلك التي تعنى بتقديم الخدمات الاجتماعية للناس، بدل التفرج على استعادة الحريرية لوجودها وإعادة هيكلة تنظيمها وبحث سبل تجاوز نكبتها التي أورثتها إياها 8 آذار.
كما تغمض المعارضة السنّية أعينها عن مشاهدة الواقع السني الضاغط، وما جرى في المناطق، وتتحدث بصخب عن الخلاف السياسي، متجاهلة واقعاً يزحف زحفاً نحو السلفية الجهادية، متجاوزاً الإسلام الحركي في شقيه السني والشيعي.
الاثنين: «الجماعة» لا تحسن التراجع وتهدر إمكان استقطاب المستقبليين.