إبراهيم الأميناللافتات هي ذاتها، والصور أيضاً، والمواطنون الذين يبحثون عن مكان عام. وهم يجدون في رفع لافتات الترحيب بالمنقذ وسيلة لنشر آرائهم وسط الشوارع وعند المفارق. وشركات الإعلان والخطّاطون نبشوا أرشيفاً ليس من بعيد، لم يعدّلوا حتى في عبارات الترحيب بالقادم لتخليص البلاد، بل عدّلوا فقط في اسم الشخص، علماً بأن حظّهم هذه المرة كان أفضل، لأن التناغم بين اسم لبنان وعائلة سليمان يتيح الجمل المختصرة التي تجعل اللافتات مرئية بقوة. وتصبح العبارات قابلة لأن يجمعها أبطال 11 آذار في البوم مصوّر سوف يتابعه اللبنانيون قريباً من على الشاشات نفسها وبلسان الفنانين أنفسهم.
إنه لبنان نفسه، لا يحرم أحداً حقّه ودوره. ثمة فرق تعيش على هذه المناسبات، وتنتشر بقوّة في مثل هذه الأيام. رؤساء البلديات والمخاتير ولجان التجار في الأحياء والمدن، وأصحاب الشركات الكبرى التي تتحكّم في بطون الناس وجيوبهم، وجيش الحشّاشين المنتشرين بين الأزقّة ودور الملاهي الكبرى. المصرفيّون الكبار، وقادة الأحزاب التي لا تتّسع لغير رئيسها ومرافقيه، باعة اليانصيب، سائقو سيارات الأجرة والباصات، متورّمو العقول الذين يرتّبون ما أمكن من الأغراض والياقات البيضاء، وجدران تُغسل وتُرفع عليها الصور التي تعطي المرء حجماً أكبر بأضعاف من حجمه الحقيقي. وهنا يجري تكبير المشهد بحجم الآمال والطموحات...والخيبات طبعاً!
إنه لبنان نفسه، كل الذين يعملون في الليل والنهار آذاناً وعيوناً على جيرانهم وأترابهم وأولاد أحيائهم، يأخذون إذناً من أجهزتهم ومشغّليهم للخروج مرة واحدة إلى العلن، يكتبون أسماءهم وعناوينهم وصفاتهم بحروف كبيرة على ما تيسّر من اللافتات المرحّبة بالمنقذ الملهم الفارس المقاوم والإصلاحي. وثم يملأون الفراغ باسم الزعماء الحقيقيين الذين ما إن ينتهي الاحتفال، حتى يعلن عن انتهاء الإجازة الممنوحة إلى المواطنين. ويعود الزعماء إلى ممارسة عملهم كالمعتاد، يقبضون على أرواح الجميع لما بقي من عمر الولاية. وهكذا دواليك.
إنه لبنان نفسه، لا حاجة إلى أن يكون لدينا رئيس نعرف شيئاً عن تجربته في السياسة والإدارة وبناء الدولة. وممنوع علينا مراجعة ما قام به خلال وجوده في منصبه الأصلي. ولا وجوب لتذكّر الظروف التي حملته إلى منصبه. ولا السؤال عن فريق عمله الذي تحوّل لغزاً وفيه مفاجآت. وعلينا مرة جديدة أن نقف مشدوهين أمام حشود المستوزرين والمرشحين لتولّي مناصب المساعدين والمستشارين. ورجال الأعمال مديرو المؤسسات المالية الكبرى، يعقدون اجتماعاتهم المخصّصة للتغيير الرئاسي أو الحكومي أو الوزاري، وحيث تنطلق حملة العلاقات العامة لأجل إقامة جسور تهدف إلى ما تهدف إليه.
إنه لبنان نفسه، حيث يخرج من يدعو إلى الصمت، إفساحاً للقادم إلى تجربة حظه، ومنحه الفرصة الكبرى. مئة يوم مجدّد لها مئة مرة. وعلينا أن نقرأ مئات الصفحات لكَتَبة البلاط الذين يستعدّون لحصد ما أمكن من مغانم، ويمكن، ببساطة، العودة إلى أرشيفهم لنرى كيف يعيد الكلام نفسه، كما هي حال الصحافة التي ترفع على صفحاتها الأولى عبارات المديح نفسها، والصور بأحجامها الاستثنائية، والافتتاحيات التي تحفل ببرامج عمل لا يبقى منها إلا الذكرى محفورة على أوراق صفراء.
إنه لبنان نفسه، يرحل ملك ويأتي آخر، ويذهب حارس ويأتي آخر، والناس من حوله يتحلّقون، يصفّقون ويهتفون فرحاً، ثم هم أنفسهم يتحلّقون آخر كل أسبوع حول زعمائهم المحليين، وما إن يبدأ النق، حتى تصبح حالهم حال الذين يشعرون بقسوة الأيام، الخيبة تلفّهم، وأولادهم يطلقون الصراخ الحقيقي، صراخ الباحث عن فرص علم وعمل وخبز. ومن الخارج تتوالى الاتصالات مهنئة بالوافد، وآباء يشجعون أولادهم على جمع ما أمكن والاستعداد للعودة، ثم لا يلبثون أن يطلبوا منهم أن يرسلوا في طلب من كبر من إخوتهم ليلتحق بهم في المهجر...
إنه لبنان نفسه. سيصاب كثيرون بالارتباك. وأفضل الحلول لهم الآن، تلك الإجازات التي لن تطول قبل أن يتم استدعاء الجميع إلى خوض معارك تثبيت الحصص والدفاع عن حقوق الطوائف المحفوظة بأسماء عائلات ومراجع ومؤسسات. المواطنون أنهكهم التعب، لا يرغبون الآن بسماع شيء فيه تحذير أو تنبيه أو تذكير بتجارب سابقة، يريدون فقط صمتاً يدوّي، لا تخرقه سوى أصوات الترحيب والتفاؤل والوعود، ومن تسوّل له نفسه قول العكس، سيعرّض نفسه للذمّ والكره، ويلام على «تنغيص» الفرحة. وسوف يخرج فقراء أتعبتهم سياسات اللبنانيين وأحوالهم يطالبون بمنحهم فرصة ولو للتأمل، وينافسهم أصحاب الشركات التي تعيش على حشود السياح العرب والأجانب التي تريد لبنان هادئاً، لا يهمّها كيف يكون حكمه، بل أن يجري توفير ما لذّ وطاب للأيام والليالي الملاح، وسوف يخرج علينا حاكم مصرف لبنان وصحبه من حكام مصارف لبنان يطالبون الجميع بترك الصناديق تمتلئ بالعملات الصعبة التي سوف تصرف مباشرة لحساب أصحاب الودائع الكبرى الذين يعملون ليل نهار لأجل تكرار النموذج نفسه من الحكم والسياسات التي تتيح لهم الفوز بكل ما يجمعه اللبنانيون الذين يعملون مرتين في اليوم.
إنه لبنان نفسه، حيث يخرج علينا القناصل ومن فوّض نفسه أو فوّضه الأقوياء وصياً علينا، بالتناوب بين هذه الدولة وتلك، ليقول لنا كلاماً سمجاً، ثقيلاً، مكرراً، فوقياً، ومعه الكثير من الأساتذة ليطالبونا هم أيضاً بالتزام الصمت، مع قليل من الفكاهة ينكبنا بها المهرّج برنار كوشنير!