أبو الشهيدين الذي عبر الخردلي مشياً ليلتحق بالمقاومين مهى زراقط

قبل العدوان الإسرائيلي الأخير في تموز 2006، كان منزل أبي علي حمود يدلّ إلى نفسه. على الطريق المؤدية إلى الخيام عبر مرجعيون كانت ترتفع صورتا الشهيدين محمد وعمار حمود أمام منزل متواضع مزنّر بأنواع مختلفة من الورود.
لكن الحرب أتت على البيت، وصار العثور على أبي علي حمود يحتاج إلى دليل يبدي سروره بأداء هذه الخدمة ومرافقتنا إلى زيارة والد الشهيدين. الأخير كان يتوقع مصيراً مماثلاً لمنزل خرّج أبطال التحرير «واللي قدّم شهداء مش رح يزعل على كومة حجارة». ثم إن أبا علي يقيم اليوم في «مدينة الشهداء»، كما يسمي بلدة جبشيت.
نصل عند الظهر، فنجده يروي بعض المزروعات أمام بيت متواضع يطغى اللون الأخضر على جدرانه. إشارة خضراء أيضاً تخرج من عروة أحد أزرار قميصه: «اللون الأخضر إشارة إلى قرابتي برسول الله، وخصوصاً أنني لست رجل دين معمّماً». هذه الملاحظة كانت كافية لكي تفهم كلّ ما سيقوله الرجل عن حياته وخياراته التي اتخذها، مقتنعاً بمعظم ما قام به، وخصوصاً اختيار طريق المقاومةوُلد حسين حمود عام 1945 في بلدة دبين (قضاء مرجعيون). التحق بالجيش اللبناني واختار التقاعد باكراً (عام 1982) بعد أن أمضى الخدمة التي تسمح له بتأمين راتب متواضع، والبحث عن مورد رزق إضافي لعائلته المؤلفة من ستة أفراد.
تهجّر من دبين عام 1977 بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة التي سبقت الاجتياح الأول. وأمضى الاجتياح الثاني في بيروت إلى أن أرسلت والدته في طلبه وعائلته عام 1988 ليكون بعيداً من الحروب المتلاحقة التي عاشتها المدينة.
نزل أبو علي عند رغبة أمه وعاد مع أربعة من أولاده إلى القرية: «هناك إما أن يعيش المرء عميلاً أو ذليلاً. طبعاً لم يكن ممكناً أن أتعاون مع العملاء فاخترت عملاً يصرفهم عني. اشتريت بقرة وعملت مزارعاً، أخرج صباحاً وأعود مساءً. فضلت أن أعيش ذليلاً بمعنى أن لا أتعاطى مع أحد على مساعدتهم». لكن هذا لم يرحمه من تحرشاتهم به «كانوا يضغطون عليّ، يسألون عن سبب عزلتي، عرضوا عليّ تصريحاً للعمل في فلسطين المحتلة وكانوا يدعونني إلى اجتماعات يعقدونها مع الأهالي ولا أحضرها. طلبوا مني مرة أن أحرس القرية فقلت لهم إني غير صالح للخدمة، لذلك سُرّحت من الجيش».
هذه التحرّشات المباشرة تضاف إلى الضغط اليومي: «كان إلقاء تحية السلام عليكم سبباً للفت الأنظار، مرة طلب مني أحدهم أن لا أحمل مسبحة في يدي كي لا يأخذني إلى معتقل الخيام»استمرّ الوضع على هذه الحال «مضطهدين ومظلومين ومكبوتين» خمسة أعوام، استفاد خلالها أبو علي بأن علّم أولاده الصيد: «اشتريت باردوتي صيد للأولاد، قلت في نفسي يتصيّدون ويتعرّفون إلى المنطقة. كانت «نية منيحة» لأني كنت أفكر لبعيد وأعرف أنهم يوماً ما سيقاتلون إلى جانب المقاومة، وخصوصاً أن أولادي عاشوا الذلّ بأنفسهم وأنا قمت بواجباتي وعلّمتهم ما أستطيع عليه».
في أيلول 1993، كان يروي المزروعات أمام بيته عندما «جاء عميل اسمه علي بو رياض، شقيق العميل رياض العبد الله، بسيارة «مرسيدس ستايشن» مع ستائر. قال لي إنه يريد أن يفتش البيت. بعدها قال: ستذهب معنا إلى المعتقل، حيث أمضيت شهرين من التعذيب والإذلال».
يشرح أبو علي قليلاً عما تعرّض له في المعتقل، لكنه لا ينفعل إلا عندما يتذكر كيف كانوا يربطونه مع الكلب «كان آمر المعتقل يقول: اربط الحاج مع الكلب. أريد أن يعرف كل العالم كيف تعامل معنا العملاء، ربطوني أنا الحاج مع كلب».
شهران، خُيّر أبو علي بعدهما: إما أن تعمل معنا أو تغادر. لم يتردد في اتخاذ القرار وغادر مع عائلته إلى الضاحية الجنوبية لبيروت.
تجربة أولاده في القرية كانت سبباً رئيسياً جعل ابنه محمد يعترف له بأنه ملتحق بالمقاومة: «حتى لا أكون مبالغاً ولا يكون قلبي قاسياً، قلت له أنا لا أمنعك من الذهاب. قلت له أنت حرّ لكني أقول لك إن الطريق الذي تنوي سلوكه مش غلط». العبارة نفسها كرّرها لولده عمار «هذه الطريق مش غلط».
استشهد محمد في عملية للمقاومة في عام 1998، وكان ابنه عمار هو من زفّ إليه الخبر «حزب الله يبلّغ أهالي الشهداء مباشرة، وهم بلّغوا عمار. عندما فتحت له الباب كان حزيناً ورأسه في الأرض. صدقيني تلقيت الخبر بعزة نفس وكرامة»يواسي نفسه بالقول إن «الشهيد محمد قطع شغله حتى يودعنا. بالعادة كان يغيب 10 أيام، لكن قبل استشهاده جاء بعد يومين لكي يودعنا. طبعاً لاحظت أن ابني راح على أساس سيغيب أسبوعاً فلماذا عاد في اليوم الثاني؟».
قبل أسبوع من استشهاد عمّار (كانون الأول 1999) زار الشهيد محمد والده في المنام «كان خجلان مني ومعه فرس بيده. ثم زارني في اليوم التالي وأعطاني كوزي رمان. رويت المنام لولديّ فقالا لي إن محمد قادم ليأخذ منّا شهيداً».
وبالفعل تلقى أبو علي الخبر بعد أسبوع. كان يصلي في يوم الجمعة الأخير من رمضان، وكان يعرف أن عملية استشهادية نفذّت في الجنوب لم يُعلن بعد عن اسم منفذّها. خلال صلاته زاره شباب من حزب الله ليبلّغوه «بمجرد ما فاتوا قلت لهم إن عمار استشهد. دموعي كانت تنزل بغزارة حزناً وفخراً. أصررت على المشاركة في احتفال يوم القدس حيث استقبلني السيد هاشم صفي الدين وخيّرني عدم إعلان اسم الشهيد حفاظاً على منزل أهلي في القرية كي لا يدمره الصهاينة، فقلت له بلى أعلن الاسم، يريدون هدم البيت فليفعلوا، أنا بدي اسأل عن بيت؟». أكثر من ذلك: «كان مقرّراً أن ينزع أحد الإخوان الستارة عن صورة الشهيد عمار، أنا لم أقبل، أنا شو بشكي؟ أنا بدي افتخر بالشهيد. سجدت لله شاكراً وحضرت الاحتفال».
رغم كلّ ما قدّمه وشعوره بأنه قام بواجباته لم يستطع أبو علي البقاء متفرّجاً خلال حرب تموز. «كنت في جبشيت أشاهد كيف يُدمّر بلدي. شعرت بنفسي خائناً لأني لا أفعل شيئاً، وتذكرت وصية أولادي أن نستمر في هذا الخط. اتصلت بأحدهم لكي يؤمن لي طريقاً، لكن تعرفي المجتمع عندما يجدون أن هناك رجلاً كبيراً في السنّ لا يكترثون له. بعدما انتظرته أسبوعاً اتكلت على الله وذهبت بسيارة إلى النبطية، ثم أكملت سيراً على الأقدام إلى مرجعيون فدبين حيث التحقت بالشباب».
كان متأكداً من الانتصار وتعزّز هذا الشعور في الأسبوع الأخير «رأيت الإمام علي بعد إنهائي أحد فروض الصلاة، كان جالساً تحت شجرة سنديان في بلدة بلاط. رحت أحكي معه وأسلّم عليه، لكنه لم يقل لي شيئاً، كان مبتسماً طيلة الوقت. هذه البسمة عززت اقتناعي بأننا منتصرون».


السفير الأميركييبتسم حسين حمود وهو يتذكر ذلك اليوم. كان مارّاً في الخيام، وعلم أن السفير الأميركي موجود فيها لتدشين أحد مشاريع «ميرسي كور». لم يستطع تقبل الأمر «صرت أغلي، أولادي والكثير من الشهداء مرّوا من هنا لكي يطهروا الأرض. هذا الإنسان يجب أن لا يكون في مكان رواه الشهداء بدمائهم». صار يفكر في ما يمكن القيام به: «اتصلت بأحدهم وقلت له معقول أن يأتي هذا الرجل وتمرّ القصة مرور الكرام؟ يروح بلا بهدلة؟ بلا ما يعرف قيمة نفسه ونحدد موقفنا منه حتى يفهم إنو ما يجي مرة ثانية لهون». أجابه الرجل: «افعل ما تشعر به»، وهكذا كان «طحشت عليه وبلّشت فيه برش. أنت جاسوس إسرائيلي، وأرض الشهداء لا يمكنها أن تستقبل ممثل السياسة الأميركية».
قبل ذلك بعامين (آب 2003) قاد أبو علي بنفسه السيارة التي أوصلته إلى معبر الناقورة الحدودي ليتسلّم جثمان ولده الشهيد محمد الذي كان استشهد في مواجهة عسكرية مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في تشرين الأول 1998.