جان عزيز... وللمرة الخامسة يذهب «أهل» الرئاسة الأولى إلى الخارج، لطبخها، علناً أو سراً، مباشرة أو مداورة. وللمرة الأولى، يحس ناسها في الداخل أنهم لم يخسروا ولم يتنازلوا ولم ينتزع منهم الخارج أو «الداخل الآخر»، بعضاً من تلك الرئاسة.
المرة الأولى، كانت عام 1969، في ما عرف لاحقاً بمرحلة اتفاق القاهرة. في الشكل، لم تكن الرئاسة موضوع الرحلة، ولا ملف تفاوضها، لكن من المضمون والإيحاءات والمكونات، قيل طويلاً وكثيراً، إن القصر الرئاسي في سن الفيل، كان حاضراً هناك. فالمشوار المصري كان عشية انتهاء ولاية «نيافة الرئيس» شارل حلو. ووجه المشوار ماروني من اليرزة، بالذات، قائد الجيش العماد إميل البستاني. وإشكالية المشوار، أزمة السلاح الفلسطيني مع الدولة، وتضامن المسلمين مع «اللاجئين»، ما أدى إلى الفراغ الحكومي. فصار حكماً في تأريخ الحقبة، أن يُحكى عن أن جوهر اتفاق القاهرة، كان البحث عن رئيس يتعايش مع «أبو عمار»، ليقبل رشيد كرامي بمساكنته.
فرطت المعادلة، وانتهت الرحلة إلى تدفيع لبنان، ولو على الورق، ثمناً باهظاً من سيادة دولته، وعلة وجودها في احتكار السلاح.
المرة الثانية كانت على مرحلتين، بين جنيف ولوزان، وبين تشرين 83 وآذار 84، يومها ذهب «أهل» الرئاسة مهزومين بين «الحي الغربي» من عاليه، و«حي السلّم» من ضاحية بيروت الجنوبية، كان مسلسل الانهيارات المسيحية قد بلغ ذروته، وكان الفريق الآخر بصوت وليد جنبلاط، يطالب بإنهاء مبكر لعهد أمين الجميل، وتثمير الإنجازات العسكرية في موازين السياسة والنظام. حاول كميل شمعون وبيار الجميّل الدفاع بلا جدوى. انتقلا إلى الهجوم الدفاعي عبر طرح «جمهورية لبنان الفدرالية». فشلا أيضاً على مسمع وصمت من ريمون إده. لكن المفاجأة كانت إنقاذ الجميع بموقف من سليمان فرنجية.
صمدت الرئاسة، واقتصر الضرر على عودة رشيد كرامي إلى الكرسي الثالث، وعلى الإقرار ورقياً بالإصلاحات ــــ التنازلات، وأحس أهل الرئاسة مرة ثانية بالخسارة.
في المرة الثالثة، كان الحدث أكثر جللاً. في دمشق، وبرعاية عبد الحليم خدام، ومشاركة الطرف «المسيحي ــــ الرئاسي» الأكثر راديكالية، أي القوات اللبنانية، بدأت محادثات «الاتفاق الثلاثي» في 24 أيلول من عام 1985. بعد ثلاثة أشهر وأربعة أيام، أعلن الاتفاق الذي قيل إنه أظهر للمرة الأولى حقيقة النيّات السورية تجاه لبنان، أسود على أبيض: مجلس رئاسي فعلي ضمن مجلس الوزراء، تكامل سوري لبنان على كل الأصعدة، وحديث عن تحويل بيروت جرماً عالقاً في الفضاء الدمشقي.
لم يستكمل المسار. سقط الاتفاق، وظل تقويمه عالقاً بين من رفضه وقاتل لرفضه، وبين من اتهم بأن الرفض كان بدافع «قم لأجلس مكانك»، ومن هوّل باتفاق آت أسوأ.
ولم تتأخر النبوءة ولا المرة الرابعة. بعد أربعة أعوام وفي الطائف، ولد الاتفاق الجديد. وبعد أقل من عام، صار دستوراً، في أيلول 1990. رئاسة بلا صلاحيات وسيادة بلا مواعيد ولا ضمانات. وآلية عمل للسلطات بلا ضوابط ولا حدود ولا وضوح. نص مطاط مبهم، مليء بالثغر والفجوات، نجح بتجلٍ في جعل عنجر ضابط إيقاع لنظام ووطن. ومرة رابعة، عاش أهل الرئاسة خسارتها، حتى التدمير الذاتي، في السياسة والسلاح.
يوم الأربعاء الفائت في 21 أيار 2008، كانت ثمة مرة خامسة، وكانت في الدوحة. للمرة الأولى أحس الجميع بأنهم لم يخسروا. وخصوصاً، للمرة الأولى أحسّت «جماعة» المنصب الأول، أنها لم تتنازل، ولم تنتزع منها حقوق ولا صلاحيات ولا ضمانات. للمرة الأولى بدا أن الخارج الوسيط لم يتقاضَ عمولة، والداخل المتفاوض لم يعلق بين اتهامي الجنون أو العمالة.
للمرة الأولى، أنجز اتفاق لبناني ــــ لبناني، أعطى المسيحيين انطباع إنجاز ما. ففي تمثيلهم النيابي جعلهم أقرب إلى مشاركة واقعهم الديمغرافي الفعلي. وفي الاختيار الرئاسي، أعطاهم بعضاً من رمزية وهم لبنانهم السابق. هذا الوهم الذي لم يسقط عندهم، رغم إسقاطه لهم مرات ومرات.
للمرة الأولى، ربح المسيحيون، ولم يخسر شركاؤهم في الوطن. انتصرت الرئاسة الأولى من دون أن يكون ذلك على حساب المواقع الدستورية الأخرى. ما الذي أمّن ذلك؟ عاملان شكّلا مساهمة حاسمة على الأقل: الرعاية الخارجية غير الطامحة إلى «عمولة» نفوذ أو دور أو موقع، والاصطفاف الداخلي خارج الحدود القاسية لجماعة الطوائف، بحيث توزع المسيحيون والمسلمون على فريقي المؤتمر، فشكّلوا صمامات أمان بعضهم لبعض، وأوقية صدمات لأي خسارة كاملة، أو ربح مطلق.
مرة خامسة، تستحق أن تكون ثابتة في الأساس والقياس، مع ترك «الصيغة» المنبثقة منها مفتوحة على كل تطوير.