نقولا ناصيفبانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بإجماع محلي وعربي ودولي استثنائي طويت صفحة استحقاق تأخر ستة أشهر، وفتحت صفحة مرحلة تالية هي تثبيت توازن سياسي بين الأفرقاء اللبنانيين حققه اتفاق الدوحة. وما بين ذاك وتلك بضعة مؤشرات:
أولها، أن دولاً بارزة حضرت انتخاب سليمان تكريساً لإجماع دولي على هدنة للوضع اللبناني وعزله إلى حدّ عن الخلافات الإقليمية المتصارعة فوق الأرض اللبنانية، خرجت من الجلسة وقد اكتسبت شرعية دورها وتدخّلها في الشأن اللبناني، وإن بتفاوت ملحوظ يتصل بمدى اهتمامها بهذا الوضع في ذاته كساحة صراع، أو صلته بنزاعات إقليمية مختلفة. وهو ما صحّ على سوريا وإيران والسعودية ومصر وتركيا، وصحّ أيضاً على فرنسا وقطر والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية. وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن تشهد أروقة البرلمان وبعض مكاتبه لقاءات وزراء بعض هذه الدول ممّن تسود علاقات بعضهم ببعض خلافات وسوء تفاهم لم يكن لبنان في منأى عنها. ولا كان من قبيل المصادفة الإشادة بما عُدّ تعاوناً سورياً لانتخاب سليمان، ولا كذلك توسيع نطاق الاجتهاد لربط التطورات الأخيرة في لبنان وصولاً إلى انتخاب سليمان بوقائع موازية دائرة على المسرح الإقليمي، من العراق إلى العلاقات السعودية ـــــ الإيرانية، وصولاً إلى المفاوضات غير المباشرة السورية ـــــ الإسرائيلية، إلى اقتراب فتح أبواب الحوار بين الاتحاد الأوروبي وسوريا، وأخيراً توقع تطور على صعيد العلاقات السورية ـــــ السعودية والسورية ـــــ المصرية. وهكذا بدا اتفاق الدوحة ثمرة أدوار هؤلاء جميعاً. وأتى حضورهم إلى لبنان كي يؤكدوا ـــــ وقد يكمن هنا مغزى هذا الحضور ـــــ أنهم كرّسوا تأثيرهم في هذا البلد وشرعية شراكتهم في تحقيق استقراره، كما في تعريضه لخطر الاضطراب.
ثانيها، أن الرئيس الجديد يفتتح عهده بتوازن قوى حدّد اتفاق الدوحة سلفاً إطاره، وكان انتخاب الرئيس من ضمن معطيات هذا التوازن. يشير ذلك إلى واقع أن المهمة المنوطة بالرئيس الجديد هي إدارة خلافات الموالاة والمعارضة في الحكم ما دام ما يختلفان عليه تطبعه الديمومة والاستمرار والشكوك المتبادلة واستعصاء التفاهم، وليست بنوداً عابرة لمشكلات موقتة أو حتى استثنائية. وللمرة الأولى لا يُعطى رئيس جديد للجمهورية ما أعطي أسلافه الـ11، وهو أن يختار هو بنفسه، من ضمن الصلاحيات الدستورية المنوطة به، الحكومة التي يريدها على صورته، وكذلك فريق عمله الوزاري. وهكذا يبدأ سليمان عهداً لم يرسم له هو توازناته الداخلية، ويجلس إلى طاولة مجلس الوزراء وقد اختار طرفا النزاع وزراءهما بمعزل عن الرئيس إلى حدّ، ما دام اتفاق الدوحة قد حدّد لكل منهما حصته في الحكومة الجديدة. ويحمل كل منهما أيضاً مشاكله المتراكمة مع الآخر عن علاقتهما المتوترة للسنوات الثلاث الأخيرة كان الرئيس ـــــ والجيش عندما كان قائده ـــــ بعيداً منها.
ثالثها، أن حكومة الوحدة الوطنية التي تقف على مسافة سنة من الانتخابات النيابية ربيع 2009، تستعد أيضاً لتلقف وزر علاقة المعارضة بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة قبل أن تقرّر الأولويات الأساسية التي يفترض كل عهد جديد أنها ستواكب انطلاقته، الأمر الذي يضع الأشهر الأولى من ولاية سليمان أمام أحد خيارين: اتخاذ القرارات السياسية والأمنية التي ستلازم ولاية السنوات الست، أو تأجيلها إلى ما بعد انتخابات 2009 وفي ضوء توازن القوى السياسي والتمثيلي الجديد الذي سينشأ عنها. وقد يكون المقصود بذلك، بادئ بدء، تعيينات في مناصب حساسة في الجيش والأجهزة الأمنية ووظائف الفئة الأولى وأخصها الأكثر تأثراً بولاية الرئيس، وفي مقدمها تعيين قائد جديد للجيش خلفاً لسليمان. ومع أن اتفاق الدوحة اهتم بوضع آلية حكم السنة الأولى من العهد الجديد بدءاً بانتخاب الرئيس وانتهاءً بانتخابات 2009، من غير أن يكرّس بالضرورة قواعد وأعرافاً جديدة، فإنه لم يحمل طرفي النزاع على التسامح حيال ما شهدته علاقتهما في السنة ونصف السنة الأخيرة، ممّا يضع أمام الرئيس ملفات شائكة قد لا تكون سهلة الحلّ ولا بالسرعة المتوخاة: لا تغفر المعارضة للموالاة عدداً كبيراً من القرارات التي اتخذتها حكومة السنيورة، إذ اعتبرتها غير شرعية وباطلة رغم تنفيذها وبعضها رتّب حقوقاً مكتسبة، ولا كذلك دور أجهزة أمنية متصلة مباشرة بتيار المستقبل وتتأثر بسياسته. ولا تغفر الموالاة للمعارضة موقفها من اعتقال الضباط الأربعة وسعي الأخيرة إلى ممارسة ضغوط لإطلاقهم في ضوء توازن القوى الجديد كجزء من موقف سلبي من المحكمة الدولية. وهي ملفات، إلى أخرى موازية في أهميتها، ستواجه الرئيس.
بيد أن لتعيين قائد جديد للجيش أهمية خاصة. للمرة الأولى سيعيّن قائد لم تختره سوريا على غرار ما حدث في العقد ونصف العقد المنصرم، وللمرة الأولى يُعيّن قائد للجيش خارج الأصول التي كانت اتبعت قبل اتفاق الطائف، وجزئياً في ظلّه، وهو أن رئيس الجمهورية صاحب الكلمة الفصل والأخيرة في تسمية القائد، ويصدر مرسوم تعيينه عن مجلس الوزراء. لكن واقع التوازن السياسي الجديد، وخصوصاً بعد النتائج السياسية لاتفاق الدوحة، يضع تعيين القائد الجديد للجيش بين يدي الموالاة والمعارضة على السواء، ويحمّل المنصب ـــــ والضابط الكبير الذي سيشغله ـــــ أهمية تتجاوز حصر الاختيار بالرئيس وحده بسبب الدور الذي أضحى عليه الجيش في السنوات الثلاث الماضية، ولأن الجيش بات خارج ارتهانه لإرادة سوريا بفعل قبضتها السياسية والأمنية السابقة. يجعل ذلك الموالاة والمعارضة معاً معنيّتين بتعيين القائد الجديد ومواصفاته كـ «حليف} محتمل والتحقق من الدور الذي سيقوم به خصوصاً. بسبب وجود خيط وهمي بين السياسة والأمن في دور الجيش.والصحيح أن مثل هذا المبرّر يكتسب صدقيته من الدور المستقل عن السياسيين الذي لعبه العماد إميل لحود على رأس المؤسسة العسكرية في عهد الرئيس الياس الهراوي، والدور الذي لعبه العماد ميشال سليمان في عهد لحود، ثم بعد خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005 بين فكّي 14 آذار و8 آذار. كان الرئيس صريحاً في خطاب القسم إذ قارب هذا الجانب، متحدثاً عن دور الجيش بعد التطورات الأخيرة، وقد ربط استقرار الأمن ونجاح الجيش في دوره بالوفاق السياسي.