رافق إقرار المباراة المحصورة بالمتعاقدين في التعليم الثانوي الرسمي في عام 2004 اعتراض على إدراج امتحان في الثقافة العامة، ما أدى إلى خفض العلامة الملغاة من 10 إلى 7/20. ظاهرة أثارت استغراب النقابية سلوى سعد فأعدّت قراءة تفكيكية لواقع الثانوية الرسمية التربوي، عبر تحليل توجهات الأساتذة الذين يؤلفون «مجموعة البحث» وتركيبتهم، أي ربط بنية الظاهرة المدروسة ـ كما تعبّر عنها نتائج المباراة ـ ببنية النظام التربوي والنظام السياسي في لبنان (الزبائنية السياسية خصوصاً) وارتباطاتها الدولية
فاتن الحاج

أكثر من 60 في المئة من الأساتذة الثانويين الذين خضعوا لمباراة تثبيت المتعاقدين في عام 2004 حازوا دون 10 من 20 على امتحان الثقافة العامة. وفيما بدا مفاجئاً أن تصل النسبة إلى 63.5 في المئة في صفوف أساتذة التربية وتطاول 56.7 في المئة من أساتذة اللغة العربية، كان لافتاً أن يحظى أساتذة اللغة الفرنسية بنسبة الرسوب الدنيا (25 في المئة).
نتائج قادت أستاذة الكيمياء في ملاك التعليم الثانوي الرسمي والنقابية سلوى سعد إلى مقاربة حالة هؤلاء الأساتذة، وتأثيرها على مستقبل التعليم الثانوي الرسمي، في رسالة أعدتها لنيل شهادة دبلوم الدراسات المعمّقة في علم اجتماع العمل، من معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، وحازت بنتيجتها 17 من 20.

حكاية البحث

وفي حكاية البحث، كما سمتها سعد، أنّ الاعتراض على إدراج امتحان الثقافة العامة الذي رافق إقرار المباراة المحصورة بالمتعاقدين هو ما أثار فضولها أولاً، «فرحتُ أبحث عن أسباب هذا الموقف، وانطلقتُ من فرضية أنّ المشكلة هي في الثقافة العامة نفسها، ولا سيما مع أساتذة مادتي الرياضيات والعلوم، بسبب أحادية التكوين الجامعي، إذ تخلو كليات العلوم من هذه المادة إلّا ما ندر».
لكنّ هذه الفرضية لم تدم طويلاً، فبعد الاطّلاع على نتائج المباراة، اكتشفت سعد أنّها مطالبة بالبحث عن مقاربة أخرى للموضوع تجيب عن الأسئلة التي ألحت عليها: «هل يمكن أن نعزو التعثر في تطبيق المناهج الجديدة التي أقرت في عام 1997 إلى غياب الإرادة السياسية الجادة وتدني مستوى التطبيق الفعلي وكيفية إدارة إصلاح المناهج وضعف الاستثمار في تجهيز المدارس والتدريب الكافي للمعلمين، أم يجب علينا أن نتساءل عن النظام التعليمي الذي يغوص في أزمة عميقة يضطلع فيها تحطيم الأساتذة المعنوي بدور مزدوج حيث يتبدى أثراً من آثارها كما هو يمثّل في الوقت نفسه أحد عواملها؟».
أسئلة دفعت سعد إلى رصد المستوى المتدني الذي آل إليه التعليم الثانوي الرسمي، بمقاربة مختلفة تُظهر التباين القائم بين القول والفعل، باعتباره وجهاً من وجوه التوجّه العالمي الجديد، ويخدم إعادة إنتاج مواقع القوى محلياً وعالمياً».
من هنا، حاول البحث التركيز على بنية النظام التربوي والعلاقات داخل هذا الوسط توخّياً لمعرفة من هؤلاء الأساتذة الذين خضعوا للمباراة، إلام يخضعون، وما هي طرائق مواجهتهم من خلال قراءة دلالات رؤيتهم تجاه العلم والثقافة والمطالعة وعبر نظرة بعضهم إلى بعض بوصفهم متخرجين من مصادر جامعية مختلفة ربطاً بعدد من المتغيّرات، لاكتناه مصدر هذا الحضور في أذهان الأساتذة وأقوالهم والخطاب القائل: «الاختصاص هو الأساس»، ولا حاجة إلى الثقافة العامة في التعليم.
ربما هناك من «شرّع» هذا الخطاب حين جرى الاعتراف بكفاءة الأساتذة عند التعاقد معهم على أساس حيازتهم الشهادات التخصصية بالمواد التعليمية المطلوب منهم تدريسها للطلاب في الثانويات الرسمية. حينها لم يُسألوا عن الثقافة العامة كما لم يطلب منهم خلال ممارستهم التعليم سوى التقيّد بإعطاء المادة التعليمية المتخصصة المنصوص عليها في الكتب المدرسية. وخلال إعدادهم الجامعي لم يتابع الأساتذة مقررات في الثقافة العامة إلا ما ندر كما أظهرت التقارير الصادرة عن المرجعيات العالمية كاليونسكو أنّ انتشار القراءة والكتابة في لبنان والعالم العربي جد محدود. بذلك تصبح الثقافة شأناً شخصياً، على حد تعبير سعد، فلماذا إذاً يقر امتحان في الثقافة العامة في المباراة المحصورة؟ أليس هذا سؤالاً مشروعاً يطرحه الأساتذة الذين سيخضعون للامتحان؟ هنا تعلّق سعد: «هل يمكن أن نعزو ذلك إلى النقص في إعداد الأساتذة أم لأنّه لم يطلب منهم في الأساس سوى نقل معارفهم التخصصية إلى طلابهم تحت طائلة المحاسبة سواء أعبر الامتحانات الرسمية أم من خلال المديرين والمنسّقين والمفتشين التربويين؟».

مارد التغيير الدولي

في الفصلين الأول والثاني، تدرس سعد التوجهات الدولية نحو بناء مجتمعات المعرفة وما رافقها في لبنان والعالم العربي من خطط ومشروعات تربوية. وتسأل: «هل تؤدي ممارسة المنظمات الدولية الدور المعلن عنه في تطوير أنظمتنا التربوية أم أنّه يكيّف بعلمها هي نفسها بما يخدم استمرار ما هو قائم ولو بأدوات متغيّرة أو يؤدي إلى تراجع الخدمة التربوية التي يتلقاها طلاب المدرسة الرسمية؟».
وترى سعد أنّ إقصاء البعد الاجتماعي هو أساس ضبابية الاستجابات العربية وتوترها على المستوى التربوي لا على البعد الثقافي الأيديولوجي الذي تعمل السلطات الحاكمة سياسية كانت أم دينية على إظهاره.
وتستدرك: «وإلا فكيف يمكننا أن نفهم نمو التعليم الخاص في إيران والأردن وباقي البلدان العربية والمنحى العام باتجاه الخصخصة للمؤسسات العامة وكيف نفهم انحسار دور النقابات وتأثيرها وإعلاء شأن الانتماءات الأولية؟».
وتستنتج سعد أنّ السلطات القائمة تخاف من إطلاق مارد التغيير الذي تشترطه المنظمات الدولية ليطاول بالدرجة الأولى الفئات الأكثر تهميشاً التي ستزداد تهميشاً، والتي تتحضّر التيارات الأصولية لاستقطابها مستخدمة التقانة الحديثة بكفاءة مستفيدة كما فعلت الأنظمة الشمولية العربية عبر الفصل المصطنع بين العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية.
لقد غيرّت التوجهات التربوية الحديثة، كما توضح سعد، دور المعلم من ناقل للمعرفة إلى محرّك لها بالاعتماد على الفكر النقدي. فهل يملك الأساتذة هذه المهارات وهل يتمتعون بالقدرة على تخريج طلاب بهذه المواصفات؟ وهل أُعدوا للاضطلاع بهذا الدور؟

غياب «التمهين»

وفي الفصول الثالث والرابع والخامس، سعت سعد إلى التعرّف عن قرب إلى المسؤولين الأساسيين (أي الأساتذة) عن تنفيذ المناهج الجديدة، عبر تحليل ما ورد في الاستمارة التي أجاب عنها 560 أستاذاً خضعوا للمباراة. وعرضت سعد خصائص «مجموعة البحث» الاقتصادية ـ الاجتماعية، كما تطرقت إلى مواقفهم واتجاهاتهم نحو العلم والثقافة والمطالعة، إضافة إلى أدوارهم المهنية، وتمثّلهم لها من خلال رضاهم عن مستوى تحصيل طلابهم وكيفية معالجتهم المشكلات التي تواجههم.
وفي النتائج، بيّن التحليل أنّ لعامل الجنس تأثيراً حاسماً في إحداث حراك اقتصادي ـ اجتماعي صاعد، وبدا أنّ نسبة مرتفعة من الإناث يخترن المهنة لتلاؤمها مع دورهن ووضعهن الجنوسي (gender)، بيد أن هذا الاستقطاب لا يؤدي إلى تبخيس المهنة الاجتماعي، بل إنّ مستوى الدخل وشروط الالتحاق المهني، هما ما يفعلان ذلك. فقد أثبت البحث أن النساء أكثر التحاقاً بالدورات التدريبية، وأكثر متابعة للطلاب وأقل رضى عن مستواهم.
من جهة ثانية، تشير سعد إلى أنّه بعد إلغاء حصرية كلية التربية في الجامعة اللبنانية لإمداد التعليم الثانوي الرسمي بأساتذته بدأ يدخل إلى هذا الملاك متخرجو الجامعات الخاصة وهم يمثّلون 12 في المئة من أساتذة مجموعة البحث، فيما ارتفع مستوى شهادة الأساتذة الجامعية بدخول حملة الدكتوراه والدبلوم. هنا تلفت سعد إلى «أننا نشهد تحولاً في الجسم التعليمي الثانوي الرسمي القادم إلى هذه المهنة من جامعات متعددة، يختلف في مقاربته للعملية التعلمية /التعليمية بل في نظرته إلى العلم والمعرفة. وهذا التنوع يمثّل غنى إذا ما استُفيد منه، غير أنّه يمثّل خطراً فيما لو لم توضع أسس متطلبات المهنة ومعاييرها التي يتحتم على الجميع العمل من ضمنها».
هكذا بعد 10 سنوات من العمل في المناهج الجديدة التي رسمت أحلاماً وردية للتلميذ، لا يتعلم هذا الأخير في الثانوية الرسمية، بحسب سعد، سوى معارف أساسية بعيداً من توطين مفهوم المهارات والكفايات.
وأظهر البحث أنّ الأكثر استفادة من تعديل المناهج هم الأساتذة الذين يدرسون المواد المستحدثة ومواد العلوم، ولهذا تبدو نسبتهم أعلى ممّن هم راضون عن المناهج الحالية. إذ لا يبدو أن هناك معياراً أكاديمياً تربوياً استند إليه أساتذة مجموعة البحث في تقويمهم هذه المناهج. ويبدو واضحاً ما للإعداد من تأثير على مواقف الأساتذة، فالذين خضعوا للإعداد يظهر موقفهم أكثر إيجابية حيال المناهج الحالية، أما الندوات والمؤتمرات التربوية، فلم تترك تأثيراً يذكر على اتجاهات مجموعة البحث في ما يتعلق بالمناهج.
ثم إن غياب «تمهين» الوظيفة تسبّب في إضعاف التعليم الثانوي الرسمي، وهذه مفارقة غريبة، على حد تعبير سعد، ذلك أن المنحى الذي تبشر به المنظمات الدولية يركز على مسألة «التمهين»، فيما النتيجة الخالصة أتت تخدم هدف هذه المنظمات الرئيسي، ألا وهو إضعاف كل ما هو رسمي.
وقد خلص البحث إلى الإضاءة على الوضع المستجد الذي سيرسم حدود الدور الجديد الذي يتعيّن على رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي الاضطلاع به لاحقاً.
حصل الأساتذة أخيراً على التثبيت وهو ما حلموا به ردحاً طويلاً من الزمن. لكن أين الطلاب من كل تلك الأحلام الحياتية والإشكاليات التربوية؟ وهل من المصادفة أن يثبت البحث أن الأساتذة المنتمين إلى فئات الدخل المتدني اندرجوا تحت النسبة الأعلى من الراضين «جداً» عن أداء طلابهم؟، أم أن هؤلاء الأساتذة يعيدون ومن دون وعي منهم إنتاج «الرداءة» التي حازوها هم؟


ملامح مجموعة البحث

يتوزّع أساتذة مجموعة البحث الاقتصادية ـــــ الاجتماعية في كل المناطق اللبنانية وعلى جميع الاختصاصات التعليمية. تمثل النساء 75 في المئة، والمتزوّجون 66.66 في المئة من مجموع الأساتذة، فيما يراوح سن نحو نصف الأساتذة بين 30 و39 سنة، وربعهم هم دون 30 سنة. وتفوق نسبة المسلمين نسبة المسيحيين بفارق كبير (نسبة المسيحيين 19 في المئة). ثمة 78 في المئة من أمهاتهم لا يعملن، بحيث يصنّف مستوى تعليم أكثر من نصفهن بالابتدائي وما دون (أمية). وتختلف مهارات الأساتذة وخبراتهم المهنية والمعرفية بسبب تنوّع سنوات الخبرة في التعليم، فضلاً عن تنوّع شهاداتهم الجامعية وتنوّع اختصاصاتهم، إضافةً إلى عدد سنوات تخرّجهم من الجامعة. ومع أنّ غالبيتهم من الجامعة اللبنانية، فإنّ زهاء 12 في المئة هم متخرجو الجامعات الخاصة في لبنان وخارج لبنان.
كذلك فإنّ النسبة الأعلى لأساتذة اختصاصات اللغات الأجنبية (الفرنسية والإنكليزية) ومادة الاقتصاد تندرج ضمن فئات الدخل العليا، بينما كانت النسبة الأعلى ضمن فئات الدخل الدنيا من نصيب أساتذة التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية (الحقوق والعلوم السياسية). وبما أنّ فرص العمل المتاحة أمام أساتذة الرياضيات والعلوم أعلى، فإنّ أكثريتهم قد انتقل إلى فئات دخل أعلى، ليمثلوا النسبة الأعلى من الفئات المتوسطة الدخل التي كان للمهنة الدور الحاسم في انتقالهم إليها


الأساتذة ودخل الأسرة

يبين الجدول أنّ 36.5 في المئة من الأساتذة في مجموعة البحث، يندرج دخل أسرهم عند الانتساب إلى الجامعة تحت الفئة (500 ألف ل.ل ـــ مليون ل.ل)، كما أنّ 74.6 في المئة منهم بلغ دخل أسرهم الشهري عند الانتساب إلى الجامعة مليوناً و500 ألف ل.ل وما دون. وعند الأخذ بمتغير الدخل، يصبح الأساتذة في مجموعة البحث متحدرين بأكثريتهم من عائلات ضمن الفئات الاقتصادية ـــ الاجتماعية ما دون الفئات الوسطى.
وبالنسبة إلى منطقة السكن باعتبارها متغيّراً مع الدخل، تلاحظ الباحثة سلوى سعد أنّ الأساتذة الذين يندرج دخل أسرهم عند انتسابهم إلى الجامعة تحت فئة 500 ألف ل.ل وما دون، ترتفع نسبتهم أكثر في البقاع والجبل ثم الجنوب، وتحت الفئة (مليون ل.ل ـــ مليون و500 ألف ل.ل)، فنسبتهم أعلى في الشمال ثم الجنوب.
وتحت الفئة (مليون و500 ألف ل.ل ومليوني ل.ل)، فالنسبة العليا في بيروت فقط. أما تحت الفئة (مليونان ل.ل و3 ملايين ل.ل)، فالنسبة العليا كانت من نصيب بيروت والجبل على الترتيب، فيما تحت الفئة (أكثر من 3 ملايين ل.ل)، كانت النسبة العليا في بيروت ثم في الجنوب.
ويبدو من البيانات أنّ من دخل التعليم الثانوي الرسمي من الأساتذة المنتمين إلى أسر من الفئات العليا والمتوسطة، هم بأكثريتهم من بيروت وجبل لبنان.