إبراهيم الأمينيبدو السؤال غريباً بعد يومين فقط على تنفيذ البند الأول من الاتفاق بانتخاب رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان. لكن الأمر مردّه الكثير من الأشياء المبهمة التي حصلت خلال الساعات التي تلت «الجلسة الانتخابية الدولية»، عدا عن طبيعة النقاش الذي دار بين أركان فريق 14 آذار حول شخصية رئيس الحكومة الذي تنوي ترشيحه، والتسريبات الخاصة بالتشكيلة الحكومية، إضافة إلى استمرار التوتر الإعلامي وعودة التوترات إلى بعض المناطق.
خطاب القسَم الذي بدا متواضعاً جداً، لم يعكس فقط عدم رغبة الرئيس الجديد في التورط في لعبة الوعود التي جرّبها اللبنانيون كثيراً، وأصابتهم الخيبة جرّاء عدم تنفيذها، بل عكس التوازن الدقيق الذي يقف خلف الاتفاق وبالتالي خلف انتخابه. وجاءت عبارات سليمان حول كل العناوين الشائكة لتعكس رغبته في حفظ خيوط التواصل مع جميع القوى اللبنانية، وهو أمر ضروري في حالته هذه، لكن اللبنانيين لم يفهموا وجهة نظر سليمان من هذه المشكلات، ولا قراءته لطبيعة أولويات المرحلة المقبلة، ما جعله مقبولاً بنظر الجميع وجعل الكل يظهر الحذر منه في الوقت نفسه.
وإذا كانت علاقة الرئيس الجديد بالقوى النافذة في الدولة ومع الخارج ستخضع لاختبارات كثيرة في القريب العاجل، فإن الأمر الداهم هو المتصل بالبند الثاني من اتفاق الدوحة الخاص بتأليف حكومة الوحدة الوطنية، إذ إن وجهة النقاش التي قامت لدى فريق الأكثرية، دلّت على أن الفريق الذي يدعم وصول الرئيس فؤاد السنيورة ليس محلياً فقط، بل هو خارجي على الأغلب، وهو أمر أظهرته الاتصالات الأخيرة للولايات المتحدة والسعودية، إذ تعتقد الدولتان أن مجيء سعد الحريري الآن سوف يعرّضه لاختبار قاس قد يخرج منه خاسراً، بينما عليه أن يستعد للانتخابات النيابية المقبلة، وأن وجوده في صدارة السلطة سوف يعرّضه لانتقادات ومحاكمة لكل ما تقوم به حكومته، ثم إن خبرته قليلة جداً في إدارة المؤسسات العامة، وسوف يكون عرضة لتناقضات كبيرة، وإن المناخ العام الذي سيعمل به لن يكون لمصلحته في ظل النتائج القائمة على الأرض بعد الحوادث الأخيرة.
أما الفريق اللبناني الذي يدعم بقاء السنيورة فهو الذي ينظر إلى الأمر من زاوية أن خروجه يعني تتويجاً لانتصار المعارضة، وهو ظلّ على الدوام الهدف الحقيقي لتحرك المعارضة وسوريا، وأن بقاء السنيورة سوف يمنع الفريق الآخر من خوض معارك في الحكومة وابتزاز الحريري، وسوف يجعله قادراً على حماية القرارات التي اتخذتها حكومته في وقت سابق. كما سوف يتيح تنظيم العلاقة مع جميع المؤسسات الأخرى في البلاد. ويرى أصحاب هذا الرأي أن بقاء السنيورة سوف يسهّل على الحريري التفرغ للانتخابات ولملمة الأوضاع على الأرض، ويجنّبه الانتقادات التي يتعرض لها من يكون في موقع رئيس الحكومة. ثم إنها حكومة انتقالية يمكن للسنيورة أن يتابعها وأن يأتي سعد على رأس أول حكومة بعد الانتخابات النيابية.
إلا أن هذه الحسابات تخفي ضمناً موقفاً ورغبة في أن تبقى الأمور في دائرة التوتر، وخصوصاً أن فريق 14 آذار يدرك أن السنيورة نفسه كان أحد أبرز أسباب التوتر، ويصعب توقع علاقة من نوع مختلف بينه وبين قوى المعارضة كافة، ثم إن بقاء السنيورة سوف يدفع بالمعارضة إلى الشعور بأن الفريق الآخر لا يريد تنفيذاً يسيراً لاتفاق الدوحة لأنه لا يمكنه رفض الاتفاق. وسوف يدفع بقوى المعارضة إلى اختيار وزراء من الوزن السياسي الذي يكون بمقدوره مواجهة السنيورة داخل مجلس الوزراء.
كذلك تحاول هذه الحسابات التصرف خلافاً للوقائع، وكأن من يقف خلفها يريد إقناع نفسه بأنه لم تحصل متغيرات في البلاد ولم يكن هناك توافق على صفحة جديدة من العلاقات. وهذا بحد ذاته أعطى انبطاعاً لدى جمهور المعارضة وقواها بأن عليها الحذر والبقاء في حالة استنفار من أجل ضمان عدم العودة بالأمور إلى الوراء، أو محاولة إيصال البلاد إلى خلافات من النوع الذي يبقي الحكومة بيد الفريق نفسه حتى موعد الانتخابات.
لكنن الجانب الأخطر من الأمر يتعلق بالعلاقة مع الرئيس سليمان، والكل يعرف أن أي رئيس جديد يأخذ في أول عهده فرصة لإظهار قدراته ومناقشة مشاريعه ويمارس نفوذاً يتقدم على الآخرين، بما في ذلك رئيس الحكومة، ما يجعل بقاء السنيورة في منصبه مدعاة قلق لانفجار في العلاقة بين رئاستي الجمهورية والحكومة، وهو الأمر الذي يعني بحسب تجربة اتفاق الطائف شللاً في عمل السلطة التنفيذية، وسوف ينقل البلاد من جديد إلى الأطر الأخرى التي تذكر بالترويكا والأطر الأخرى.
أما السبب الآخر الذي وجد فيه الناس ما يدعو إلى القلق، فهو اللغة والنبرة اللتان اتسم بهما خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أول من أمس، حيث كان الصوت المرتفع يعكس قلقاً لديه من وجود مناخات لا تريد المصالحة الكاملة، عدا عن أنه يشعر بأن هناك قوى خارجية لا تبدو مهتمة بتنقية الأجواء كفاية وتغيير سياساتها بما يعزز اتفاق الدوحة وضمان حسن تنفيذه، علماً بأن خصوم نصر الله وجدوا في خطابه رسالة إلى الجميع بأنه لا يريد أن يكون في موقع من هو مطالَب بخطوات تراجعية أو تنازلات على قاعدة أنه أخطأ. وهذا الموقف يبدو أنه محل نقاش لدى قيادات المعارضة ولدى قيادة حزب الله نفسها التي لا تريد أن يضعها أحد في موقع المطالب باعتذار أو توضيح، بل هي ترى، على العكس، أن الآخرين يجب أن يقوموا بهذا الأمر.
أما الأمور الأخرى التي بدت مثل إشارات مقلقة، فهي العودة السريعة للإعلام السعودي في الرياض وفي بيروت، إلى اعتماد لغة تحريضية ضد المعارضة والمقاومة، بما يوحي بأن هناك من لا يريد دفع الأمور نحو مصالحة حقيقية ونحو تحقيق توافقات من النوع الذي يجعل البلاد في مرحلة انتقالية نحو سلم مستقر. وربما لهذا السبب وغيره، شاهد اللبنانيون خلال الساعات الـ24 الماضية عودة التوترات الفردية إلى الشوارع في بيروت ومناطق أخرى. وإذا كان هناك من يجزم بأنها ستظل محصورة في هذه الحدود، فإنها تمثّل العبء الذي يسقط سريعاً المناخ الاحتفالي الذي عاشه اللبنانيون أواخر أيام الأسبوع الماضي.