ظهر مع الكتابات البشرية والتدوينات الأولى وزادته التقلبات المناخية انتشاراً، وأبناء أفريقيا أكبر ضحاياهباريس ــ خضر سلامة

يُعدّ الملاريا من أقدم الأمراض التي عرفها الإنسان، وكادت تهدد وجوده في مراحل سابقة، ويرجح العلماء أن عدوى الملاريا التي «يحتكر» الجنس البشري الإصابة بها بين كل الكائنات الحية، ظهرت منذ أكثر من 50 ألف عام، وكان انتشارها الأعظم قبل حوالى عشرة آلاف سنة، مع الثورة الزراعية الأولى في الحضارات الإنسانية، وتكفي الإشارة إلى ظهور الملاريا مع أولى الكتابات البشرية والتدوينات، لمعرفة عمر هذه العدوى وتأثيرها على الإنسان، التي ـــ حسب تقديرات وزيرة الصحة السابقة في جمهورية بنين ـــ قتلت واحداً بين كل أربعة أشخاص عبر التاريخ البشري إذا احتُسبت التقديرات التي نملكها للعصور القديمة.
إحصاءات «منظمة الصحة العالمية»، ومن ورائها الأمم المتحدة، كانت كافية لرسم حجم المخاطر الهائلة التي يمثّلها الملاريا، فـ40 في المئة من سكان العالم، أي حوالى ملياري ونصف مليار، معرّضون للإصابة بالمرض، وقد جرى تشخيص المرض في مئة وثلاثة بلدان وأقاليم، فالمصابون به خمسمئة مليون بالملاريا، يقضي منهم مليون فرد، معظمهم من الأطفال ما دون الخمس سنوات، 20 في المئة من وفيات الأطفال في قارة أفريقيا مثلاً، سببها المباشر مرض الملاريا، حيث يقضي طفلان كل دقيقة في القارة السمراء، بتأثير من عدوى «الهواء الفاسد».
قارة أفريقيا بفقرائها وجياعها، هي متصدرة اللوائح والأرقام عبر احتوائها معظم الإصابات القاتلة، وأكبر أرقام الوفيات الناتجة من هذا المرض. في السنغال مثلاً يبلغ عدد المصابين سنوياً بالمرض أكثر من مليون ومئتي ألف شخص، فيما عدد السكان لا يتجاوز 12 مليوناً! ويضاف إلى تفاصيل هذه الأرقام، وفاة نحو مئة ألف امرأة حامل في أفريقيا بسبب عوارض المرض، غير أن الأعوام الماضية حملت مفاجآت قاسية للعاملين في مجال مكافحة المرض، حين أخذ بالانتشار بشكل أعنف في مناطق خارج القارة الأفريقية كانت قادرة على محاصرته سابقاً، كبعض أقاليم آسيا الوسطى وجنوب أميركا، ولعل أهم الأسباب التي ساهمت في انتشار الملاريا، هي التقلبات المناخية السريعة والملائمة لتكاثر البعوض، كالجفاف الحاد، والعواصف الاستوائية، أضف إلى الأسباب البشرية كسوء حالة الصرف الصحي، وتركز القدرة المؤسساتية العلاجية في بلدان العالم النامي في المدن الكبيرة، وعزل المحيط الريفي عن نعمة الاستشفاء، ومن ثم السبب الأهم، وهو أن مرض الملاريا مرض منسي ومهمل من متمولي العالم وشركات أدويتهم... ومصالحهم أيضاًلماذا التلكؤ في إيجاد علاج فعال لهذا المرض القديم؟ لعل الملاريا تتسم بصفة «مرض الفقراء»، لذلك يغيب الدعم المادي الفعال عن مؤسسات البحث والدراسة للملاريا. العقار الوحيد الجاد أُنتج في ستينيات القرن الماضي مع الحرب الفيتنامية، حين عانى الجنود الأميركيون من غضب المستنقعات الآسيوية بأمراضها.
ومع غياب اللوبي السياسي الضاغط على شركات الأدوية، الموجودة لإنتاج أدوية للملاريا، اضطرت الدول الفقيرة التي تعاني المرض، إلى أن تكتفي بدور الضحية وتعداد أرقام وفياتها.
غياب التمويل والدواء، جعل أيضاً من الحركة العالمية لمكافحة الملاريا «بدائية» الشكل، عبر توقفها عند حدود توزيع الناموسيات الواقية من البعوض، والرش الموسمي والمتكرر (بالأدوية الحشرية المتوافرة، يجب على المكافحين للمرض رش المكان الجغرافي نفسه من مرتين إلى ثلاث مرات سنوياً!!).
ويُشار إلى أن المبيدات الرخيصة التي استعملت في القرن العشرين لمحاربة البعوض، والرش العشوائي وعدم ترشيد استخدامها، أتاحت للبعوض ناقل المرض، أن يُطوّر مناعة خاصة ضد معظم المبيدات التي عرفها الإنسان، فنسبة المعرضين من سكان العالم لمخاطر انتشار المرض قبل تطور مناعة البعوض بسبب الإهمال البشري، كانت عند عام 1960 لا تتجاوز 10 في المئة من سكان المعمورة!
هذه العوامل العالمية، المتحدة مع العوامل المحلية في بلدان الفقر والتخلف الثقافي والخدماتي، جعلت من الملاريا مرضاً منسياً، مخاطره لا تقف عند حدود الجسد الإنساني، بل تتعداه إلى ضرب الأسس الديموغرافية، والتنموية لبعض البلدان، حيث يبلغ متوسط الخسائر الناتجة من الملاريا 1.3 في المئة من النمو الاقتصادي العام. رغم ذلك، بدا بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، متفائلاً في مؤتمره الصحافي الذي عقده في اليوم العالمي لمحاربة الملاريا، حين أعلن أن تضامن العالم وتكاتفه إذا ما توافرا، سيجعلان من الممكن توفير الإجراءات الأساسية لمكافحة العدوى بحلول عام 2010، هذه الإجراءات المرتبطة بالدعم الدولي وتصاعده الذي تراهن عليه الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، قد تكفي لاحقاً، حسب توقعات دراسة برازيلية سابقة، إلى خفض نسب الإصابة بالملاريا إلى النصف بحلول عام 2018.