عربي يتأهّب للعمل السياسي ولجنة المتابعة على المحكّرغم مضي أكثر من 22 سنة على اغتياله في 9 شباط 1986، لا تزال صور مؤسّس «المقاومة الشعبية» خليل عكّاوي، «أبو عربي»، تتصدّر غالبية المنازل في منطقة باب التبّانة بطرابلس، المعقل الرئيسي لانطلاقته، وكذلك محالها التجارية وجدران شوارعها وأزقتها
طرابلس ـ عبد الكافي الصمد
رغم أنّ صور كثير من الشخصيات السياسية ارتفعت ثم ما لبثت أن اختفت من منطقة باب التبانة، فإنّ صور أبو عربي وحدها بقيت مكانها، على نحو أثار تساؤلات عن سرّ تمسّك أهل المنطقة به، حتى إنّهم يقسمون بحياته لتأكيد صدقيتهم، فضلاً عن اعتبارهم له رمزاً لم يخبُ وهجه عندهم رغم مرور السنوات على غيابه، فضلاً عن تساؤل آخر يدور حول مصير الإرث السياسي والاجتماعي الذي خلّفه، لانتشال باب التبّانة من الحالة المزرية التي لا تزال تعانيها، والتي كانت الهم الرئيسي لأبو عربي ومحور نشاطاته، إضافة إلى ميوله العربية والقومية، ودفاعه عن القضية الفلسطينية الذي ترجمه بانتسابه وهو يافع إلى حركة «فتح»، قبل تأسيس «حركة التوحيد الإسلامي» بالتعاون مع الشيخ سعيد شعبان وغيرهوإذا كان عكّاوي قد تسلّم دفة القيادة من شقيقه الأكبر علي، الذي قاد عام 1968 حركة تمرّد وعصيان على الدولة «دفاعاً عن المظلومين» في منطقته، وأسهم في انتفاضة فلّاحي عكّار، قبل أن يعتقل ويتوفى في سجنه عام 1972، فإنّ أحداً لم يحمل راية أبو عربي إثر اغتياله، ولا بعد نفيه أو اعتقاله في السجون السورية. أغلب الكوادر الذين تحلّقوا حوله، تركوا منذ ذلك الحين منطقة باب التبّانة ونظيراتها من المناطق الشعبية والمحرومة في طرابلس على قارعة الإهمال والحرمان، ودخلوا في غياهب النسيان التام، أللهم إلا عند بروز حادث أمني كان يتمثل في اشتباك عسكري أمسى معتاداً بين التبانة وجبل محسن، أو عند أيّ استحقاق انتخابي.
لكنّ الأعوام القليلة الماضية حفلت بتطوّرات حملت دلالات، وتمثّلت في ما شهدته باب التبّانة من عودة مجموعة من رموز حركة خليل عكاوي إلى الظهور فيها، مستغلّين خروج القوّات السورية من لبنان في 26 نيسان 2005، ومن قبله الإفراج عن بعضهم من السجون السورية، أو العودة من منافيهم وإنهاء اعتكافهم، ليباشروا حضورهم الشعبي فيها، وسعيهم لاستعادة زمن مجد صنعوه في حارات باب التبانة وأزقتها، كانوا فيه أمراءها، من غير أن يتجاهلوا المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبيرة التي طرأت على المنطقة وطرابلس خصوصاً، والشمال ولبنان عموماً، منذ ذلك الحين حتى الآن.
فبعد الاشتباكات الأخيرة التي دارت بين باب التبّانة وجبل محسن، إثر إضراب 7 أيّار، تداعى وجهاء باب التبّانة إلى اجتماع واسع ألّفوا على أثره لجنة متابعة مكوّنة من شخصياتٍ عدة (خضر ملص، محمود الأسود، سمير الحسن، مصطفى خالد وعزيز علوش)، معروفة بأنّها كانت بجميع أفرادها تمثّل ذراعاً رئيسياً لأبو عربي، مما عدّه البعض محاولة لإعادة إحياء حركته.
وكان قد سبق هذه الأجواء ورافقها، شروع نجل خليل عكاوي البكر عربي (31 سنة)، في التحرّك بين أبناء منطقته، وساعده في ذلك عمله في سنترال باب التبّانة، كي «أبقى قريباً من نبضها وهمومها ومشاكلها»، حسب قوله، بعد انتقاله ووالدته وشقيقاته الثلاث للعيش خارجها غداة اغتيال والده.
ويقول عربي «إن روحي متعلقة بهذه المنطقة، فعندما أسير في شوارعها أحسّ بسعادة، وبانتماء كبير إليها، وخصوصاً عندما ألتقي بأهلها الذين يحيطونني بمحبتهم، ويترحّمون على والدي ويذكرونه بالخير، وهذا يجعلني أشعر بمسؤولية كبيرة تجاههم، وتحديداً بعد طلبهم مني مساعدتهم في أمور معيشية واجتماعية، فأقوم بذلك كما كان يفعل والدي، وفق الإمكانات القليلة المتوافرة لدي».
وعمّا إذا كان يزمع ممارسة العمل السياسي لاحقاً، أو استعادة دور والده وحضوره، يقول عربي إنّّ «والدي شخصية مختلفة، فضلاً عن الظروف التي واجهته. فقد ترك وراءه أثراً وإرثاً كبيرين، رغم أنّه توفي وهو في مقتبل العمر، إذ كان يوم اغتياله في الثانية والثلاثين. أمّا بخصوص مسعاي لتأدية دور سياسي معين مستقبلاً، فإنّني أنتظر الظروف المناسبة لذلك، مع حرصي على البقاء مستقلاً، بعيداً عن التحاقي بهذا الطرف أو ذاك، وإقامتي علاقات جيدة مع الجميع، لأنّ هدفي هو رفع المعاناة عن أهل منطقتي».
في موازاة ذلك، أوضح عضو اللجنة الرقيب خضر ملص أنّ تأليف اللجنة «كان لتوحيد المنطقة وضبطها في زمن الأزمات، وتجنيبها صراعاً لا علاقة لها به، ونجحنا في ذلك عبر توصلنا إلى اتفاق لوقف إطلاق النّار بين الجبل والتبّانة». أمّا زميله الآخر في اللجنة محمود الأسود فقال: «إنّنا نعيد اليوم تجربة أبو عربي، على الأقل من الناحية الاجتماعية، كما لدينا تجربتنا السياسية والاجتماعية والعسكرية التي نستفيد منها لتهدئة الأمور وضبطها والتواصل مع النّاس».
وأكد الأسود أنّ «إرث ابو عربي يساعدنا في عملنا بلا شك. فالجيل الحالي الذي سمع به ولم يعرفه، يحبّه، فكيف بمن عايشه ورافقه، لأنّه دافع عن المنطقة والمدينة، عدا أنّه كان متواضعاً وناكراً لذاته، في مسكنه ومعيشته، ومقدّماً هموم الناس ومطالبهم على همومه ومطالبه».
إلا أنّ مصادر متابعة أكّدت أنّ أعضاء اللجنة «وضعوا أنفسهم على محكّ التجربة الفعلي، وأنّه لمعرفة حظوظ نجاح خطوتهم أو فشلها، لا بدّ من التنبّه إلى أمرين: الأول يتعلق بما إذا كانت القيادة الجماعية يمكنها أن تعيش في مجتمع يتّسم بطابع العمل الفردي. والآخر يرتبط بالعلاقة التي أقامها أعضاء اللجنة مع شخصيات وقوى سياسية خارج المنطقة، واحتمال أن يؤدي ذلك عند تضارب مصالحها إلى تعثر عملها».


المقاومة الشعبية

أطلق خليل عكّاوي حركة «المقاومة الشعبية» في عاصمة الشّمال بالتزامن مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، مرتكزاً في أسسها الفكرية وعناوين تحرّكها على خلفية يسارية أقرب إلى الماركسية الماوية، ورافعاً شعارات المقاومة ووحدة الشعب والوحدة العربية ودعم الثورة الفلسطينية. وكان واضحاً تأثر الحركة بالمدّ القومي والناصري، وفي ما بعد تأثرها بثورة الخميني في إيران بعد عام 1979، وهو ما دفع «المقاومة الشعبية» برئاسة عكاوي إلى السعي لإقامة حركة واسعة على مستوى لبنان كله، لا في باب التبّانة أو طرابلس وحدهما، فأنشأت لهذه الغاية صلات وثيقة مع أفرقاء عديدين في أكثر من منطقة لبنانية. وتعدّ حركة التوحيد الإطار الأوسع الذي شكّل تجمعاً للعديد من القوى، وكان عكاوي عمودها الفقري المقاتل.