جان عزيزأكثر من عامين مضيا، قبل بداية الحديث عن «الانقلاب على الطائف». لكن ساعات قليلة كانت كافية لبدء السؤال: هل بدأت محاولة الانقلاب على الدوحة؟
الإشارات كثيرة ومقلقة. ميدانياً عودة نمط الاشتباكات الليلية. من المزرعة والطريق الجديدة، إلى عرمون وتخوم الشوف، وصولاً إلى صيدا، بما تحمل من دلالات نفسية وجماعية متوترة ومشحونة. خارجياً سلسلة طويلة من التحفظات التي بدأت تخدش بلّور التسوية. الأميركيون يتحدثون عن «عمل كثير يجب القيام به بعد». الفرنسيون تذكّروا أن «اتفاق الدوحة لا يحل كل شيء». حتى كوشنير الذي رقص للتسوية في ساحة النجمة، استدرك أمس «إنها لم تسوِّ الأمور في العمق». قبل أن يتوقع بان كي مون «ألّا يحل اتفاق الدوحة كل المشاكل العالقة».
هل هي إرهاصات «الثورة المضادة»، كما حصل بداية عهد فؤاد شهاب سنة 1958؟ وهل حدودها إعادة تصحيح طفيفة في الموازين، تلغي شعور النكسة لدى البعض؟
قد تكون هذه القراءة مطمئنة، لولا الكلام الأكثر بعداً وتطلعاً في أوساط الموالاة، وحتى في الأوساط السياسية المراقبة والعارفة.
أحد أركان 14 آذار يحرص على التعبير عن ارتياحه إلى مسار الأمور، منذ 5 أيار، تاريخ القرارين ومعركتهما، حتى الدوحة وما بعدها. يختصر اقتناعه الواثق بعبارة المثل القروي المعروف: «الواوي بلع المنجل...» لكنه لا يكتفي بالثقافة الشعبية للقياس والاستدلال. بل يغرف من ثقافة التاريخ السياسي.
يقول: إنها المرة الثالثة التي يسعى فيها طرف ما، وفي شكل معلن، إلى إقامة حالة تعايش أو مساكنة غير شرعية، بين دويلته والدولة.
المرة الأولى كانت أواخر الستينيات. يومها حاول أبو عمار فرض معادلة التعايش بين الدويلة الفلسطينية والدولة اللبنانية، مستعيناً بقسم من اللبنانيين، ومستغلاً تهاون المؤسسات الدستورية وضعفها. لكن الأمر لم يلبث أن ولّد حالة مرضية، تمثّلت في الأزمة الحكومية واتفاق القاهرة سنة 69، واستمرت تعتمل داخل الجسم اللبناني حتى انفجرت البلاد على مراحل، بين نيسان 69 ونيسان 73، وصولاً إلى نيسان 75، لينتهي الأمر، ولو بعد وقت طويل نسبياً، إلى سقوط الدويلة الفلسطينية، وصمود الدولة اللبنانية، بعد تبدّل الاقتناعات الداخلية والظروف الخارجية.
في المرة الثانية، يتابع ركن الموالاة، حاول بشير الجميل تكرار تجربة المساكنة نفسها. بين أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينبات، نجح قائد القوات اللبنانية يومها، في فرض معادلة التعايش نفسها على إلياس سركيس. في أقل من أربعة أعوام، تحوّلت تلك المعادلة إلى حقل ألغام فجّرت كل المعنيين بها، وفتحت البلاد على كل أخطار الخارج والداخل.
اليوم يسعى «حزب الله» إلى تكرار التجربة العرفاتية ـــــ القواتية، يقول المسؤول في قوى الموالاة. لكن إرهاصاتها تبدو منذ الآن مطابقة للسابقتين. فكما انزلقت «المقاومة الفلسطينية» إلى زقاق الفاكهاني حتى انتهت، وكما تراجعت «المقاومة اللبنانية» إلى حدود طموح بعبدا، هكذا ستتحوّل «المقاومة الإسلامية» إلى فزّاعة لباقي الجماعات اللبنانية، حتى تفقد شرعية وجودها وبقائها.
اللافت أن هذه القراءة الذاتية من ركن أساسي في الموالاة، تتطابق مع أخرى موضوعية لدى مصدر سياسي مواكب ومطّلع. يقول المصدر: ما هذه المفارقة في الاطمئنان الجنبلاطي اللافت والجلي؟ رغم كل عوارض النكسة، ونتائج المعركة، يبدو سيّد المختارة واثقاً من المرحلة المقبلة. فهل ثمّة من أسرّ إليه بقراءة مغايرة للظاهر والمعلن؟
يتساءل المصدر نفسه: في السبعينيات والثمانينيات، استدرج السلاح الفلسطيني إلى الداخل اللبناني، حتى إغراقه واستنزافه، وخصوصاً حتى إظهار عبئه وكلفته على مؤيديه وداعميه. فصار التدخل الإسرائيلي ممكناً للتخلّص منه. وأواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات استدرج السلاح المسيحي إلى داخل الجماعة المسيحية نفسها. افتعلت معارك التدمير الذاتي، حتى تكوّن انطباع مسيحي بأن كلفة بقاء هذا السلاح صارت أكبر من جدواه، فصار التدخل السوري ممكناً للتخلّص منه، بعد تبدّل مزاج بيئته نفسها. فهل ثمّة مخطط ثالث اليوم لتحويل سلاح المقاومة إلى عبء باهظ الكلفة، حتى على أهله وساحته، تمهيداً لخطوة ما تحاول إنهاءه؟ وهل إيصال قائد الجيش بالذات إلى سدّة الرئاسة إجراء وقائي واستباقي في إطار المخطط نفسه، لضمان «شبكة أمان» عسكرية وأمنية في حدها الأدنى، تكون جاهزة لمنع الانهيار الكامل، حين يأتي الاستحقاق الكبير؟
مفارقة أن يبدو وليد جنبلاط أكثر اطمئناناً من حسن نصر الله. ومخاطرة أن تجري مقاربة اتفاق الدوحة بين الانقلاب عليه وتحويله إلى فخّ.