أنطوان سعدللموالاة بالتأكيد اعتباراتها، المشروعة من وجهة نظرها، في تسمية الرئيس فؤاد السنيورة رئيساً للحكومة المقبلة، بخلاف توقعات وربما أمنيات أحزاب المعارضة، كما رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الذي ظل يعتقد حتى ليل السبت الماضي أن الأكثرية سوف تختار رئيس كتلة تيار المستقبل النائب سعد الدين الحريري لهذا المنصب. وهو بالأساس حقها كأكثرية في مجلس النواب في اختيار من يناسبها، لا من يناسب غيرها، في زمن مفصلي يسعى فيه كل طرف سياسي أو طائفي إلى أن يحسّن شروطه ويؤمّن الظروف الملائمة له لخوض الانتخابات النيابية المقبلة في عام 2009. فهذه الانتخابات يراها كل من الطرفين مفصلية بالنسبة إليه، وتُشحّذ في الكواليس تحضيراً لها المحفظات النقدية والخدماتية والحملات الدعائية والسياسية.
غير أن ما تتوقف عنده الأوساط المراقبة هو لماذا تصوير الرئيس السنيورة من جانب الأكثرية كفزاعة لتخويف المعارضة؟ ولماذا ارتضت هذه الأخيرة أن تراه على هذا النحو؟ إذ كان طوال الأعوام الثلاثة الماضية ينفذ سياسة الأكثرية بحذافيرها، بدليل تمسكها الشديد بإعادته إلى السرايا الحكومية. إذاً المسألة متعلقة بشخص الرئيس فؤاد السنيورة الذي أتى بشبه إجماع النواب، وحرص في الأشهر الأولى بعد تأليفه الحكومة الأخيرة في عهد الرئيس إميل لحود على إبراز صورته كرجل دولة من طراز رفيع، وإذ بالأحداث التي عرفها لبنان ابتداءً من صيف 2006، حوّلته إلى الشخصية المرفوضة من أبرز رموز الأكثرية أكثر من المعارضة، التي لم تحز سوى ثمانية وستين صوتاً في الاستشارات النيابية الملزمة التي أجراها رئيس الجمهورية.
حتى إن طريقة تكليف الرئيس السنيورة ذكّرت بعض المراقبين المخضرمين بتكليف الرئيس رشيد الصلح تأليف الحكومة التي اندلعت حرب عام 1975 أيامها، والحكومة التي أجرت الانتخابات النيابية المشؤومة سنة 1992. بعد هاتين التجربتين، بات الرئيس الصلح نموذجاً للشخصيات التي يؤتى على ذكرها، ويفكر أولياء الأمر في تكليفها تأليف حكومة، في كل مرة يكون اتجاه الأحداث في البلاد نحو التصعيد والتحدي.
وبحسب ضباط كبار متقاعدين مقربين من الرئيس سليمان، فإن سيد بعبدا بدوره حذر كثيراً منه، وكان يفضّل أيضاً تكليف النائب الحريري تأليف الحكومة الأولى من عهده. ليس فقط بسبب طريقة تعامل الرئيس السنيورة مع الجيش عموماً عندما كان وزيراً للمالية، أو بسبب تعامله شخصياً معه عندما كان يستدعيه لحضور جلسات مجلس الوزراء، ويطلب إليه الانسحاب من الجلسة والانتظار خارج القاعة ـــ غالباً ما كان قائد الجيش يأبى الانتظار ويفضّل مغادرة السرايا ـــ بل أيضاً لأنه كان يريد أن يستهلّ عهده بصدمة إيجابية تعطي الأمل للبنانيين التواقين للاستقرار والازدهار، تماماً كما كان الرئيس السنيورة لما تألّفت حكومته قبل ثلاثة أعوام.
إضافة إلى ترسبات الماضي، ثمة من يعتقد أن الكيمياء الشخصية مفقودة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المستقيل والمكلّف. غير أن هذا الأمر لا يقلق من يعرفون الرجلين معرفة شخصية، لأن المعروف عنهما انضباطهما وقدرتهما على استيعاب الوضع والتكيّف معه، بغض النظر عن رأيهما الشخصي الواحد بالآخر، وبغيرهما.
عندما كان الرئيس السابق العماد إميل لحود يسأل، ابتداءً من خريف عام 2005، عمّا إذا كان مرتاحاً للتعامل مع الرئيس السنيورة أكثر من الرئيس الراحل رفيق الحريري، كان يجيب بما يمكن فهمه بالنفي. ويوضح أن هذا الأخير، على رغم الصولات والجولات والعداء المستحكم معه، كان واضحاً ويقول ما يفكّر فيه، في حين أن باطنية رئيس حكومته الأخيرة كانت تثير ريبته وتوجسه الدائم. وهكذا سقطت تجربة المساكنة بين رئيس الجمهورية السابق المعروف بعدم باطنيته، ورئيس الحكومة الباطني، بعدما سقطت إلى حد ما تجربة المساكنة بين الرئيسين لحود والحريري غير الباطنيين.
يقول عارفو الرئيس سليمان إنه من المقلّين بالكلام، وميّال إلى عدم الكشف عما يفكر فيه ويحضّر له، وأنه سوف يحسن التعامل مع رئيس حكومته الأولى ويتمكن من التفاهم معه على رغم كل الصعوبات والتعقيدات التي ترخي بظلها على الوضع اللبناني. ويتعزّز هذا الاعتقاد بنتيجة شعور رئيس الجمهورية بأن مجيئه على حصان التوافق بين القيادات اللبنانية والقوى الخارجية المؤثرة عليها، يرتّب عليه مسؤولية استثنائية. في المقابل، قد يكون تأليف الحكومة العتيدة الفرصة الأخيرة للرئيس فؤاد السنيورة لكي ينقذ صورته كرجل دولة يحفظ له التاريخ اللبناني مكانة مميزة، لا سيما في مجال التصدي للدين العام والمشكلات الاقتصادية الكثيرة، والمساهمة في ارتقاء مستوى حياة اللبنانيين.
في وقت يكثر فيه الكلام على التحدي والتحدي المضاد، وفرض الرأي على الآخر، ومحاولة تسجيل انتصارات حاسمة، ثمة فائدة من ترداد ما يقوله رجل سياسي مخضرم، هو الوزير السابق جان عبيد: «السياسة كسب الناس وليس كسرهم».