حفريات الإنقاذ تتسارع في صيدا، وبدأت تظهر خريطة المدينة التاريخية بحدودها وامتداداتها، بعد العثور على السور الروماني وجزء من مقابر المدينة
جوان فرشخ بجالي

لا تتوقف حفريات الإنقاذ في صيدا، المدينة التي تختزن في أرضها تاريخاً عمره آلاف السنوات. ومع كل ورشة إعمار، يظهر لأهل الاختصاص بعض من الآثار، تماماً كما يجري اليوم في منطقة ساحة الشهداء.
فريق علماء الآثار الذي يعمل بإشراف مسؤولة آثار صيدا والشوف مريم زيادة، اكتشف أخيراً سور المدينة والمقابر التي يشرح أهميتها أسعد سيف مسؤول الحفريات الأثرية في المديرية العامة للآثار: «أتاحت لنا حفرية الإنقاذ هذه اكتشافاً مهماً جداً، وهو تحديد سور المدينة الذي يعود تاريخه إلى ما بين نهاية الفترة الهلنستية وبداية القرن الأول قبل الميلاد. وتكمن أهمية الاكتشاف أن السور يقع خارج ما كان معروفاً بحدود المدينة القديمة، أي بمحاذاة القلعة البرية، وعند نقطة الفصل بين «تلة صيدا» أو الهضبة الصغيرة التي ترتفع فوقها المدينة وامتداد السهل من جهة، والساحل من جهة أخرى».
ويقول سيف إنّ أحجار السور كانت سرقت منه في الفترات السابقة، لذا لم يبق إلا المستويات الأولى، وهناك مباحثات قائمة مع أصحاب العقار في محاولة للمحافظة على السور ضمن المبنى الجديد.
بالإضافة إلى هذه الحفرية، بدأ فريق المديرية حفريات جديدة في المنطقة المجاورة لساحة الشهداء، حيث بدأت تظهر مقبرة صيدا الرومانية. ويقول سيف «إن المقبرة تشبه تلك المحافظ عليها في موقع صور، وهي مؤلفة من عدد كبير من النووايس الحجرية البسيطة (أيّ لا تزيّنها أي نقوش)، وهي مرصوصة بالقرب من بعضها، ويبدو كأن هناك مقابر عائلية مبنية في تلك المنطقة». ولكن العمل في تلك الحفرية لا يزال في بدايته، حيث يعمل علماء الآثار المختصون بالعظام البشرية في الموقع.
ويؤكد سيف أن العظام البشرية التي يعثر عليها في التنقيبات الأثرية تستعمل لدراسات علمية معمقة، تطال أنواع الأمراض التي كانت منتشرة في تلك الفترة، وسبب الوفاة إن أمكن ذلك. كما أنه يؤكد أن الرفات توضع في غرف بشكل يحترم حرمة الموت.
وكان علماء الآثار رفعوا خلال الأشهر الماضية الرسومات عن جدران مقبرة رومانية اكتُشفت خلال أعمال البناء في منطقة في شرق صيدا. والجدير بالذكر أن منطقة شرق صيدا غنية جداً بالمقابر الرومانية، بعضها زينت جدرانه برسومات «جنائزية»، أي إن مواضيعها مستوحاة من الأساطير والميثولوجيا الرومانية والإغريقية، وعادة ما تُزيّن أطر الجدرانيات برسومات لزهور وأوراق شجر أو أشكال هندسية سهلة. ويوضح سيف أن مجمل جدرانيات هذه المقبرة كانت قد وقعت بفعل الزمن ولم يبق منها إلا بعض الأجزاء التي رُفعت عن الجدران ووُضعت في مخازن المديرية العامة للآثار. وكانت جدران هذه المقبرة متصدّعة كثيراً بسبب تسرب المياه إليها، ما أدى إلى انهيارها بشكل كامل بعد وقت قصير من انتهاء الأعمال.
يذكر أن تاريخ صيدا، تماماً كباقي المدن لبنان التاريخية، كان عرضة دوماً للسرقة والنهب من عمال البناء. إذ، بحسب بعض العاملين في هذا القطاع، كانت جرت العادة الاتفاق مع سائقي الجرافات لجرف الآثار تحت جنح الظلام وقبل أن تعرف فيها دوائر الشرطة، ثم ترمى الآثار مع باقي الردم بشكل تختفي فيه «معالم الجريمة». وكانت هذه العمليات تتم بالاتفاق مع «سارقي الآثار» الذين يدخلون الموقع قبل عملية الجرف ويرفعون القطع التي يمكن أن تباع في سوق الآثار ويتقاسمون الربح مع كل المتورطين في تلك العملية. أما الهدف من عملية «تلف» الآثار وقتل تاريخ المدينة تلك، فهو تسهيل علمية البناء. ولكن أسعد سيف يؤكد أن الوضع بدأ يتغير، وبدأ المقاولون يتّصلون بالمديرية العامة للآثار لإتمام حفريات الإنقاذ التي يأخذون على عاتقهم كلفة إنجازها، ويعدّ ذلك بمثابة خطوة إيجابية جداً ستسمح مع مرور الوقت بإتمام خريطة صيدا الأثرية.


آثار صيدا
تعدّ صيدا من أهم المدن التاريخية في لبنان، فقد سكنها الإنسان دون انقطاع منذ فترة ما قبل التاريخ. ولكن سكن المدينة بشكل متواصل كان له الوقع السيئ على علم الآثار وتاريخ المدينة. فالإنسان سكن الأرض التي ورثها عن أجداده، وبالتالي بقيت الآثار مدفونة تحت البيوت والطرق، ولاكتشافها كان يجب انتظار مشاريع الإعمار وحفريات الإنقاذ، تماماً كما يجري اليوم في مختلف أرجاء المدينة.
أما الطريقة الأخرى فهي المتبعة على بقعة أرض تملكها المديرية العامة للآثار بالقرب من القلعة البرية، حيث تقوم فرق تابعة للمتحف البريطاني بحفريات أثرية تكشف تاريخ صيدا القديم.