جان عزيزفي حمأة مؤتمر الدوحة وما تلاه من استحقاقات دستورية وحكومية، لم يحظَ لقاء البطريرك الماروني بسيّد البيت الأبيض في 21 أيار الجاري بالأهمية والإضاءة المعتادتين للزوّار اللبنانيين الاستثنائيين على جادّة بنسلفانيا في واشنطن. وقد تُعزى الأسباب إلى عوامل عدة. أبرزها أن توقيت الحدث قتله. ذلك أن المصادفة جعلته زمنياً بعد إنجاز الحل القطري، فيما كان اللقاء مقرراً أصلاً، كما يُفترض، لمناقشة الأزمة. ومن أسباب التراجع عن الضوء أيضاً، أن طرفَي الاجتماع باتا في مرحلة «خريف موقعيهما»، في اعتقاد كثيرين. فالرئيس الأميركي يكاد يدخل في «كوما» بلاده الانتخابية بعد أسابيع قليلة. فيما البطريرك الماروني بدا كأنه اعتزل العمل السياسي، منذ نكسة لائحة أسمائه الرئاسية ومزحة الوساطة الفرنسية الرافعة لها. فبوش الذي بدأ «عهده» اللبناني في اتفاق النورماندي مع جاك شيراك، ورسم خارطة المنطقة بدءاً من بيروت، انتهى إلى الاستماع إلى خطاب قسم ميشال سليمان، ليتصل مؤيداً وداعماً، مع ما في الخطاب من حفظ لموقع المقاومة والاستفادة منها.
وصفير الذي بدأ «عهده» الرئاسي قبل سبعة أشهر، مرجعية عليا فوق الدستور والنصاب والانتخاب، يسمي المرشحين، ويكاد يزكي من بينهم رئيساً، انتهى على هامش مؤتمر الدوحة، غير متشاور معه في حي المدور وموقعه الانتخابي على خارطة العاصمة وصورة لبنان الانتخابية.
لكل هذه الأسباب ولسواها ربما، مرّ لقاء 21 أيار بصمت. غير أن بعض المضمون المنقول عن المشاركين في ذلك الاجتماع، يعيد إلقاء الضوء على دلالات ومؤشرات لافتة.
ثلاث نقاط منفصلة شكلاً، ومترابطة ضمناً وفعلاً، استوقفت أحد الذين حضروا لقاء بوش صفير. الأولى كانت الاستياء الواضح لدى الرئيس الأميركي، مما تناهى إليه من معلومات عن اتفاق الدوحة الذي كانت تفاصيله الأخيرة موضع إنجاز في لحظة الاجتماع. ولم يتردد بوش في التعبير عن امتعاضه مما توصّل إليه المجتمعون في العاصمة القطرية. وبمزيج من الأسى والمرارة وبعض الازدراء، أعرب سيّد البيت الأبيض عن اعتقاده بأن هذا الاتفاق يعني «إعطاء كل شيء للمعارضة». ولمّا حاول الاستفسار عن بعض التفاصيل وآخر ما تسقّطه ضيوفه عن المؤتمر ونتائجه، لم يلاقِ بوش غير الصمت والاكتفاء بما كان قد بات معروفاً، وغياب أي معلومات جديدة أو دقيقة.
النقطة الثانية التي فاجأت الحاضرين، جاءت زمنياً بعد كلام ثانوي وهامشي فاصل عن الاستياء الأول. إذ لم يلبث بوش أن استعاد تجهّمه، ليسأل ضيوفه عن العماد ميشال عون. مرّة جديدة كان الصمت سيّد الموقف. لكن تعابير وجه الرئيس أشارت بوضوح إلى معادلة ربط سببي، يقيمها زعيم العالم، بين ما حصل في الدوحة من انتصار للمعارضة، وبين الدور الذي قام به هذا الجنرال الذي تسأل عنه واشنطن. وإزاء صمت الحاضرين، حاول الرئيس الأميركي الذهاب أبعد في السؤال، فاستفسر من الوفد الكنسي الرفيع ما إذا كان أعضاؤه يعتبرون عون مسيحياً ملتزماً ومؤمناً. فبادره أحد الأساقفة بالإجابة المؤكدة، ومشدّداً على إعطاء شهادته الشخصية في مسيحية الجنرال. تراجع بوش عن سؤاله، وعادت أطراف الحديث لتغرق في العاديات والهوامش.
بعد مضيّ أكثر من ثلثي الوقت المخصص للّقاء، والقصير أصلاً، بدا للحاضرين أن المسألة لا تتعدى معادلة اجتماع مجاملة، أو «جلسة شاي ومسامرة»، كما يقول المثل الإنكليزي. عندها طلب أحد الحاضرين الكلام، ليوجّه إلى الرئيس الأميركي سؤالاً محدداً: «ماذا سيحصل بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان؟».
هنا قفزت النقطة الثالثة المرتبطة موضوعياً بسابقتَيها. إذ لم يجد الرئيس الأميركي غير الرد بنوع من السؤال ـــــ الجزويتي: «وإلى أين سيذهبون؟ أوليسوا في حالة إقامة مستقرة في لبنان؟».
حلّ شبه ذهول على وجوه الضيوف الروحيين اللبنانيين، قبل أن يكسره أحد الأساقفة بالرد على السؤال ـــــ الانطباع، محاولاً تفنيده وإقناع صاحبه بأن أوضاع الفلسطينيين في لبنان سيئة جداً، ومتردّية، ولا يمكن بأي حال وصفها بالإقامة المستقرة. والأهم أن هذه الإقامة لا يمكن أن تبقي استقراراً في لبنان، في حال تطبيعها أو تأبيدها أو تحويلها توطيناً. أخذ زعيم العالم علماً بوجهة النظر، هزّ رأسه مومئاً بالفهم والاستيعاب وانتهى اللقاء.
المعارضة أخذت كل شيء في الدوحة. ميشال عون مسؤول عمّا حدث. «الإقامة المستقرة» للفلسطينيين في لبنان باتت مسألة أكثر صعوبة وتعقيداً. ثلاث نقاط مرّت من دون ضجيج في واشنطن، لكنها تلقي الكثير من الضوء على أحداث الأعوام القليلة الماضية، وعلى ما قد يأتي.
في زيارتهم السابقة في 17 آذار 2005 إلى البيت الأبيض، حمل جورج بوش كرسياً لأحد الأساقفة الموارنة الذي لم يجد مقعداً له. وقال الرئيس: «يهمني أن تكونوا مرتاحين هنا». في 26 أيار 2008 خرج الأساقفة أنفسهم من دون ارتياح...