جان عزيزتصرّ أوساط المعارضة، المسيحية منها خصوصاً، على اعتبار مسألة توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، على أراضيه وفي شكل نهائي، جزءاً أساسياً من مكوّنات الأزمة الراهنة. وتعترف الأوساط نفسها بأن هذا البعد من أبعاد الصراع الحاصل، قد يبدو متقاطعاً مع حسابات أكثر من طرف داخلي وإقليمي ودولي. غير أن ذلك لا يمكن أن يمثِّل أي عقدة نقص أو خوف أو خجل للبنانيين، تحول دون رفع الصوت عالياً، للتنديد بما تصرّ هذه الأوساط على أنه مؤامرة التوطين.
وتلاحظ الأوساط نفسها أن كل الكلام الذي تحاول قوى الموالاة سوقه للرد على الاتهام الموجّه إليها، إمّا بالتورّط وإمّا بالصمت لكونها مستفيدة، لا يتعدى مقولات أن الدستور ينص على عدم التوطين. فيما الوثائق والوقائع المعاصرة والآنية الحية والفاعلة، تشير إلى ضرورة القلق حيال ذلك.
وترى الأوساط نفسها أن سياق الوضع الراهن، بُعيد القمة العربية الأخيرة، وبعد أشهر قليلة على زيارة جورج بوش إلى فلسطين محمود عباس بالذات، يمثِّل دافعاً أقوى للحذر والخوف. وتعرض تلك الأوساط تأكيداً لموقفها واقتناعاتها، الأمثلة والوثائق الكثيرة، التي تؤكد ارتباط اسم محمود عباس، أو «أبو مازن»، بمشاريع التوطين، أو التخفيف من قطعية حق العودة وحتميته. ففي 12 تموز 2005 نقلت وكالة الصحافة الفرنسية خبراً من دبي يؤكد إعلان عباس موافقته «على منح الدول العربية جنسيات للاجئين الفلسطينيين»، مشيراً إلى أن ذلك لا يعني التوطين. ونفى عباس، الذي كان يتحدث إلى إحدى الفضائيات العربية، أن تكون جامعة الدول العربية تمنع تجنيس الفلسطينيين، مؤكداً «أن لا قرار بذلك، هناك توصية وإنها ذريعة يتخذها البعض»، مشيراً إلى أن هذه التوصية تعود إلى الخمسينيات.
القنبلة التي فجّرها الرئيس الفلسطيني يومها، لم تلبث تداعياتها أن ترددت في أكثر من وسط وجوّ. فبعد أسبوع على إعلانها، كانت أعمال الدورة الـ74 لمؤتمر المشرفين على شؤون الفلسطينيين في الجامعة العربية منعقدة. وكان على مندوب لبنان لدى مجلس الجامعة السفير عبد اللطيف مملوك، أن يردّ على عباس مردّداً الموقف الشكلي للحكومة اللبنانية، برفض إعطاء الفلسطينيين المقيمين على الأراضي اللبنانية الجنسية.
لكن المفاجأة استمرت على لسان ممثل أبو مازن، مندوب فلسطين لدى الجامعة، محمد صبيح، الذي أكد صراحة موقف سلطته الذي يقول إن «منع حصول الفلسطينيين على جنسية دول عربية أخرى، هو توصية صدرت في الخمسينيات، وسقطت بالتقادم»، مشيراً بذلك إلى ما رآه أبو مازن «توصية» لا غير، صادرة عن مجلس الجامعة سنة 1959. وحين حاول المندوب اللبناني التمسّك بهذا «القرار»، قاطعه صبيح معترضاً، وداعياً الدول العربية المضيفة للاجئين الفلسطينيين إلى منحهم جنسيتها، على غرار الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا كما قال. وإزاء هذا التأكيد، رأى المندوب اللبناني يومها أن «إثارة منح الجنسية للفلسطينيين في البلاد المستضيفة لهم، تأتي في ظرف غير مناسب»، كما قال.
صحيح أن الموضوع كان مجرد إشارة عابرة في حديث تلفزيوني وفي جلسة ثانوية لهيئة عربية، تقول أوساط المعارضة، لكن الصحيح أيضاً أن هذا الكلام لا يمكن فصله عن سلسلة المعطيات، الآني منها، مثل كلام أحد رجال الدين السنّة قبل أسابيع عن دعوته إلى إعطاء الفلسطينيين في لبنان الجنسية اللبنانية، أو كلام البطريرك الماروني في الأول من حزيران 2007، عن أن «هناك فريقاً في لبنان يرفض التوطين من الأساس، فيما هناك فريق آخر لا يمانع».
والمواقف الداخلية المذكورة، لا بد من عطفها على تلك المماثلة خارجياً. فالبرلمان الأوروبي يملك في أدراجه منذ تشرين الثاني 2003، اقتراحاً بتوطين الفلسطينيين، مقدماً من عضوية إميلو منديز دل فاللي وجانيس ساكيلاريو، وهو اقتراح تلقّت السفارة اللبنانية في بروكسل نسخة رسمية منه، وهو ينص على «طلب دعم الجامعة العربية ومجموع الدول العربية المعنية من أجل إيجاد تسوية لهذه المسألة الدقيقة (اللاجئين الفلسطينيين)... ودعوة الدول المعنية إلى بذل كل إمكاناتها لتمنح الجنسية للاجئين الفلسطينيين فيها لمَن يرغب، بما في ذلك لأبنائهم (...) الأمر الذي يسهل اندماجهم»، من دون نسيان التتويج الدولي لهذه المواقف، مع كلام بوش في إسرائيل في 13 كانون الثاني الماضي، الداعي إلى «تعويض اللاجئين الفلسطينيين لقاء حرمانهم حق
العودة».
صحيح أن إثارة الموضوع اليوم، قد تتقاطع مع حسابات بعض الأطراف، لكن ماذا لو كان الصمت عليه وحياله يؤدي إلى التطبيق الحرفي والتدريجي لوثيقة ـ بيلين ـ أبو مازن حول الحل النهائي؟ فهل من يذكر مضمونها؟