جان عزيزذات يوم من شهر حزيران سنة 2002، كان أحد أركان الموالاة الحالية، يخوض نقاشاً لا يخلو من الحماوة مع مسؤول بارز في وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن. كان المسؤول الأميركي من المشكّكين الدائمين في إمكان أن يصير لبنان «دولة». وكان من موقعه النافذ والمعني، معارضاً شرساً لمشروع قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية المنطلق حديثاً يومها. حاول السياسي اللبناني المعارض في حينه إقناع مضيفه بوجهة النظر المعاكسة، وبقدرة اللبنانيين على استحقاق وطن واستقلال وسيادة. فجأةً ارتسمت على وجه المسؤول الأميركي ابتسامة تميل إلى لون المكر السياسي، وسأل ضيفه السؤال الحرفي التالي: «اسمع يا صديقي، لنفترض أننا توصّلنا إلى إخراج الجيش السوري من لبنان ولنفترض أيضاً أننا تمكّنّا من إيجاد حل ما يسمح بنقل جميع الفلسطينيين اللاجئين على أرضكم. فهل يكون ذلك كافياً بالنسبة إليكم لتبنوا دولة مستقلة ذات سيادة؟». كان المسؤول الأميركي الخبير بالملف اللبناني، يوحي باقتناعه المعاكس، ويحاول بسؤاله الافتراضي تأكيد ذلك. لكن المفاجأة التي لم يكن ينتظرها جاءت في جواب الركن المعارض يومها، والموالي حالياً، الذي بادر فوراً إلى الرد قائلاً: «طبعاً هذا لا يكفي. فعليكم أولاً مساعدتنا على التخلّص من رفيق الحريري. لا يمكن بناء دولة مع هذا الرجل ومشروعه».
نحو ستة أعوام مضت على هذا الحوار. ستة أعوام شهدت رحيل السوريين، وغياب الحريري. وحدهم اللاجئون الفلسطينيون لا يزالون حاضرين في معادلة الأزمة، ولبنان لم يعد دولة بعد.
قد لا تكون تلك الواقعة وإسقاطاتها الممكنة على الوضع الراهن من قبيل المصادفة البحتة. فثمة من يعتقد أن عقدة فلسطينيي الشتات هي العلّة الأكثر عسراً في القضية اللبنانية، لناحية مقارباتها العلاجية الآنية. ولأنها كذلك يعتقد البعض أن الكثير من تركيبات السلطات المتعاقبة بين فلسطين ما بعد أوسلو، ولبنان الحقبة المتزامنة مع ذلك الاتفاق، مرتبط عضوياً ومباشرة بتلك العلّة.
واللافت أنه طيلة مسار ما سمّي «عملية مدريد»، كانت ثمة مرجعية نظرية مثلّثة الأطراف للتعامل مع قضية اللاجئين. وهي المتمثلة باللجنة المتعددة الأطراف المنبثقة عن مؤتمر السلام، والمكلفة موضوع اللاجئين، التي تولّت مهمّاتها السلطات الكندية فترة طويلة، كما السلطة الفلسطينية الناشئة من اتفاق أوسلو، والسلطات اللبنانية المضيفة للاجئين. لكن المفارقة أن أي تحرك لبناني لم يحصل على هذا المثلث طيلة عقد كامل. وهو ما دأبت المعارضة السيادية اللبنانية على عزوه يومها إلى نيات الوصاية السورية إبقاء الورقة الفلسطينية في يدها، مدخلاً لها للمساومة والضغط والابتزاز، لبنانياً ودولياً في بازار العملية السلمية المتعثرة.
وفيما كان لبنان غارقاً في سبات وصايته، كان الفلسطينيون يحاولون مراراً وتكراراً، التوصل إلى تسويات لكل المسائل الخلافية الجذرية. ولعل أبرز تلك المحاولات أثمر صيف عام 1996، مع ما عُرف باسم «وثيقة بيلين ــ أبو مازن» المنشورة بحرفيتها في السابع من آب من ذلك العام. وهي الوثيقة التي أقرّت شبه تسويات شاملة للعقد المستعصية: القدس تقسّم، ليكتفي الفلسطينيون بمحلّتي أبو ديس والفيروزية، الأماكن المقدسة تحت السيادة الإسرائيلية في إطار صيغة الفاتيكان، المستوطنات الكبرى باقية، فترة اختبار لعشرين عاماً، تليها دولة فلسطينية منزوعة السلاح. وماذا عن اللاجئين؟ ذكرت الوثيقة بوضوح أن حل هذه المعضلة يكون بأن «تحل هيئة دولية محل وكالة «أونروا»، لتتولى عملية إعادة تأهيل اللاجئين والنازحين وتأمين استيعابهم في دول وأماكن إقامتهم الحالية (...) وامتصاص أعدادهم في الحياة اليومية للمجتمعات التي يعيشون في محيطها». وأضافت إن على إسرائيل العمل لذلك «مع الأطراف الدولية الراعية دونما صخب أو ضجيج (...) وبممارسة الضغوط الكفيلة بانتزاع المواقف الدولية الداعمة لهذا الهدف والتعامل مع الدول المضيفة بما يضمن إغلاق هذا الملف ببطء».
سال حبر كثير لنفي مضمون تلك الوثيقة. لكن الأمور على الأرض ظلّت مغايرة. أبو مازن صار في موقع السلطة المعنية فلسطينياً. وواشنطن وضعت رئيسها بثقله في دفع المشروع قدماً. وتسيبي ليفني تحدثت بصراحة عن ذلك الهدف في قراءتها النقدية للمبادرة العربية في آذار 2002. لكن الأبرز بداية التسويق لبنانياً، لإيجابيات مشروع كهذا: التجنيس الشهير سنة 1994 استوعب قسماً من اللاجئين. وما بقي قد يكون ضرورة اقتصادية في سوق يد العمل، تعويضاً وصدّاً لأي تدفّق سوري إلى هذه السوق. والأرقام الفعلية أقل بكثير من معطيات «الفزاعة» المستعملة، ثم من يدري، قد يستدعي ذلك تجنيساً مقابلاً للاجئين مسيحيين من العراق.
«كذبة التوطين»، شعار يردّده دوماً مسيحيو الموالاة. وهم في غالبيتهم من ورثة المسيحيين الذين خاضوا حرب عام 75 ضد تلك «الكذبة». مراجعة نقدية ذاتية؟ إعادة قراءة لتاريخنا المعاصر؟ فليكن. لكن فلتكن على أساس المحاسبة والمساءلة ومن دون كذبة جديدة ولو مرة.