strong>تعيش مدينة طرابلس عملية «إزالة التجاعيد» عن أبنيتها القديمة، في إطار برنامج الإرث الثقافي. شكل المدينة في تحوّل بفعل ورش الترميم والتأهيل لكن البرنامج الذي يلحظ الحجر، يتغاضى عن البشر
جوان فرشخ بجالي
عبد الكافي الصمد
طرابلس اليوم ورشة ضخمة. ورشة تأهيل وترميم وتحديث لأسواق المدينة القديمة وبيوتها التراثية والقلعة الصليبية الرابضة فوقها. تدخل هذه الورشة في إطار مشروع الإرث الثقافي الذي يموّله قرض من البنك الدولي. وترتفع قيمة الأموال المصروفة لمدينة طرابلس إلى نحو 20 مليون دولار أميركي، قدمتها جهات دولية مانحة، ويشرف مجلس الإنماء والإعمار على الورشة التي تتابعها على الأرض مباشرة بلدية طرابلس.
المشروع غير مسبوق في تاريخ طرابلس الحديث، ولا سيّما أنّه سيقلب بعد الانتهاء منه وجه المنطقة القديمة رأساً على عقب بفعل التحسينات والتعديلات التي طرأت على واجهات المحالّ التجارية والأرصفة والشوارع الداخلية والسّاحات والمستديرات وأعمدة الإنارة.
تشرح سمر كرم، مسؤولة المواقع الأثرية في لبنان الشمالي أن «المشروع مقسَّم إلى مرحلتين كبيرتين انتهى العمل من الأولى، وبدأ في الثانية». قامت المرحلة الأولى على «ترميم واجهات الأسواق القديمة وتأهيل البنية التحتية فيها وبناء مجمعات سكنية لمهجّري طوفان نهر أبو علي الذين كانوا يسكنون خان العسكر منذ 1955 تمهيداً لترميم المبنى التاريخي».
أما المرحلة الثانية فتشمل «سَقْف قسم من مجرى نهر أبو علي ونقل بسطات الخُضَر إليه وتحويل السير من حوله وتنظيمه، بالإضافة إلى ترميم الجدران المتصدّعة في القلعة الصليبية، وتأهيل مسالك الزيارات وتزويدها باللوحات التي تشرح تاريخها وتزود الزائر بالمعلومات الضرورية».
في انتظار انتهاء أعمال المرحلة الثانية، يمكن زائر المدينة وسكانها رؤية إلانجازات في الشارع الممتد على نحو 700 متر من طلعة نهر أبو علي ــ القلعة، وصولاً إلى مستديرة سوق البازركان ــ التلّ. فبحسب ما يلحظه المشروع، تمّ توسيع الأرصفة ورصفها بالرخام، وتركيب معدات وأجهزة إنارة جديدة مُستوحاة من «تراث المدينة» وتجميل واجهات الأبنية والمحالّ التجارية، بعدما استُبدلت بأبوابها القديمة أخرى جديدة مكوّنة من الحديد والخشب. كما نُزعَت سقوف الأرصفة المُكوّنة من ألواح «التوتياء»، التي كانت عاملاً رئيسياً في تشويه وجه المنطقة، واستُبدِلَت بها أخرى من الحديد والخشب تحاول أن تأخذ طابعاً تاريخياً، ولكنها تبقى حديثة العهد و«رخيصة الشكل».
أما التغيير «المفجع» فهو في رصف الشارع بالحجر البازلتي الأسود، الذي لم تعرفه طرابلس في تاريخها، ولكن مشروع الإرث الثقافي قرر تعميمه على كلّ مشاريعه كأسلوب جمالي لرصف الطرقات!
وأعيد خلال الأيام الماضية فتح الشارع أمام حركة عبور السيّارات عليه، ما مثّل حافزاً للزيارة لسكان المدينة. هذا التحديث اللافت كان مثار إعجاب أحمد الطرطوسي، الذي يملك محلاً لبيع الأدوات النحاسية، وتحديداً التراثية منها، وسط سوق النحّاسين الشهير وسط طرابلس القديمة. ولفت إلى أن «التغيير الإيجابي الذي شهدته المنطقة سيحوّل المنطقة القديمة من طرابلس إلى واحدة من أهمّ المناطق التجارية والسياحية والتراثية في الشّمال ولبنان».
لكنّ هذا الموقف الإيجابي للطرطوسي يناقضه بشكل كامل علي موسى، صاحب مقهى صغير في الشارع المذكور إذ يقول: «رغم الإيجابيات التي يحفل بها المشروع، إلا أنّ سلبياته أكبر منه»، مشيراً إلى أنّه «أسوأ مشروع إرث ثقافي في العالم!». ويعدّد موسى وعدد من ضيوف مقهاه مساوئ المشروع وثغراته، ابتداءً من «ازدحام حركة السير في الشارع الضيق الآن، ما يسبب مشاكل دائمة، إلى رداءة أنواع الرخام والحجر البازلتي الأسود المستخدمين، وكذلك نوعية الأعمال المنجزة التي تبرز عيوبها بعد هطل الأمطار، حيث يتحوّل الشارع إلى بركة وحل كبيرة، بسبب عدم وجود مصارف مياه كافية فيه». يضاف إلى ذلك مخاوف من أن يأتي «توسيع الأرصفة على حساب الطرقات، وأنّ تتحوّل هذه الأرصفة إلى ساحات يستخدمها أصحاب البسطات والباعة الجوالين، وهو ما بدأ بالظهور منذ الآن».
مخاوف هذا المواطن الطرابلسي يؤكدها مهندسون مطلعون على الترميمات، إذ «إن القيِّمين على المشروع يرفضون إعطاء التفاصيل في ورش الترميم حقها من ناحية الدراسات والتمويل، فيأتي التنفيذ عشوائياً وتبدأ الأخطاء التي يدفع ثمنها سكان المنطقة». على سبيل المثال «كان معروفاً لديهم أن تنفيذ مصافي المياه بشكلها الحالي وانحدارها سيسبب فيضان الأسواق والشوارع الضيقة، لكن الخطأ لم يصحح لكلفته العالية».
استفاد أبناء طرابلس مادياً من مشروع الإرث الثقافي خلال فترة تنفيذه، إذ عملوا في الورشات، ولكن ما لا يلحظه المشروع هو مرحلة ما بعد انتهائه. فماذا سيحل بهذه الواجهات التي تحتاج إلى عملية صيانة دائمة، مَن سيوفرها؟ بالنسبة إلى أصحاب المحالّ التجارية، الدولة مسؤولة عن ذلك، لأن «الدولة» لم تحولهم إلى شركاء لها في المشروع، ولم تعمل على تنمية اقتصادية مستدامة عبر خلق فرص عمل جديدة... الخوف من أن تتحول هذه الساحة إلى مكان يعجّ بالبسطات مرتكز على واقع معيشي متدنٍّ، فالناس يبحثون عن لقمة العيش بشتى الطرق.
لقد قام مشروع الإرث الثقافي بخطوات جمالية رائعة، فمثلاً بيوت تلة باب التبانة طُليت بالألوان الزاهية، ما حدّ من بشاعة العمران فيها. ولكن هل سيدوم جمالها بوجه الانتخابات النيابية المقبلة حينما تتحول كل شرفة وحائط إلى ملصق لصور المرشحين؟ ومن سيعيد تنظيفها وإعادة دهنها، وخصوصاً أن الأهالي هم من فقراء طرابلس؟ أسئلة تطرح، لكن الإجابة عنها تأتي، مع الأسف، على شكل ابتسامة متفائلة من كل الجهات العاملة في المشروع الذي لم يلحظ الإنماء الاقتصادي والاجتماعي. جمالها الحالي قد لا يدوم، إذا لم تتدارك البلدية الوضع، وتضع خطة عملية لحل المعضلة التي ستواجهها. لذلك يقع على كتفيها عبئان:
الأوّل هندسي، وهو إدارة شؤون المدينة والتأكد من أن الأمور لن تعود إلى سابق عهدها. أما الثاني فإنساني، وهو السماح للأفراد بتأمين معيشتهم بشكل لايؤذي المشروع ولا يعيد الأمور إلى سابق عهدها.