جوان فرشخ بجالييؤكد مطّلعون على الملف أن «المشروع كان قد طرح للمناقشة أكثر من عشر مرات. كما أن المكتب الهندسي الذي عمل على «خلق» فكرة سقف النهر (دبس وتابت) كان عرض تصوّراً لطروحاته أكثر من مرة في طرابلس، ونوقش المشروع مع المجلس البلدي على مدى سنين، وفق ما يؤكده كل من رئيس المجلس البلدي في طرابلس رشيد الجمالي والدكتور مصباح رجب، الأستاذ في الجامعة اللبنانية والعضو في الفريق الاستشاري.
يشرح رجب أن الفكرة الأساس هي «إعادة صلة الوصل بين طرفي المدينة المقطعة الأوصال، بسبب عرض مجرى النهر المبني بالإسمنت بعد فيضان نهر أبو علي سنة 1955». فمدينة طرابلس، بشكلها الحالي، «منقسمة هندسياً، والجسور الصغيرة المبنية هنا وهناك لا تكفي لوصلها، كما أن المدينة تعاني من أزمة سير خانقة ودائمة بسبب ضغط حركة المرور على هذه الشوارع، وامتداد البسطات على المساحات العامة. لذا كان لا بد من «خلق» محلة جديدة تلتقي عليها البسطات لا تبعد عن الأولى، فكانت فكرة سقف جزء من مجرى النهر وتحويل قسم منه إلى سوق والقسم الآخر إلى ساحة عامة أطلقنا عليها اسم «ميدان طرابلس»، لعلها تكون مركز تلاق ونقاش».
هذه الفكرة الهندسية هذه لم تكن لتنفذ لولا الوضع السياسي القائم. فبحسب مصدر مطّلع على الملف في مجلس الإنماء والإعمار، طلب عدم ذكر اسمه، «يدخل في مشروع طرابلس الوضع السياسي منذ ولادة الفكرة، لدرجة أن الفكر الهندسي لم يستطع أن يتطور بنفسه وبحسب ما تراه عين الخبراء مناسباً للمدينة، بل حاول مراراً العثور على حلّ وسطي ينسجم مع الضغوطات السياسية». يضيف: «قبل عام 2005، لم تقبل السلطات السورية أن يكون هناك أي تحوّل في مكان البسطات أو أن يلحظ المشروع أي تغيير في حياة أصحابها، مما دفع بالمكتب الهندسي إلى التغاضي عن فكرة «سقف جزء من مجرى النهر» والعمل على توسيع أحد الجسور ليكون صلة الوصل بين المدينة القديمة الممتدة من التكية المولوية إلى سوق الخضار، وطرح مشروع نفق بالتوازي مع الطريق لحل مشكلة السير».
لكن بعد انسحاب القوات السورية «أصبح من الممكن العمل بالفكرة الأساسية: وصل طرفي المدينة وحل مشكلة السير وإخلاء الخط العام من البسطات، وإعطاء المدينة مظهراً جميلاً وعملياً، فعادت فكرة ميدان طرابلس».
رست، «بالصدفة»، مناقصة تنفيذ أضخم بناء هندسي في مشروع الإرث الثقافي على عاتق شركة «جينكو» التي يملكها شفيق الحريري، والتي عادة ما يرتكز عملها على مدينة صيدا وجوارها... ولكن، للسياسة دائماً تداخل في المشاريع الهندسية، خاصة إذا ما كانت تنوي تطوير نمط حياة شريحة واسعة من الفقراء.
تجدر الإشارة إلى أنه، بحسب علم تطور الفكر البشري، يمثّل بناء مجمع جديد وجميل لبيع الخضار وخلق ساحة حوار، ارتقاءً بمجتمع الباعة. ولكن لا يمكن لهذا الارتقاء أن ينجح إذا لم تعمل السلطات على خلق رابط قوي بين أصحاب البسطات والميدان الجديد. «يجب أن يشعروا بأن هذا الميدان لهم، وأن يستملكوه نفسياً، حينها يبدأ التغيير نحو الأفضل، وهذه التجربة ليست الأولى من نوعها، فهناك تجارب شبيهة في دول المغرب العربي، والنتائج كانت مذهلة» يؤكد رجب.
الملاحظة الثانية هي أن الاعتراض على مشروع سقف النهر لم يعد يجدي نفعاً، لأن السلطة اللبنانية وافقت عليه ونشرت بياناته في الجريدة الرسمية ورصدت له الأموال، بحيث أصبح تعديله مستحيلاً. إضافة إلى أن البنك الدولي كان اشترط لتمويل المشروع حصول الموافقة التي تعني إقراره، وإذا استمرّ الجدل والاعتراض قائمين، فقد يلغى المشروع وتصرف الأموال على مشاريع أخرى.
ربما يبدو سقف النهر مستغرباً. والمخاوف من أن يغير هذا البناء شكل ضفة النهر جذرياً أمرٌ محتم، وسيؤثر على الذاكرة الجماعية... لكن لماذا الجزم بأن هذا التغيير سيكون سيئاً حتمياً؟ فمنطقة باب التبانة تعد بؤرة من البؤس، والتجار وأصحاب البسطات في حال اختلاف دائم، وعرقلة السير أزمة دائمة... وهذا المناخ لا يمكن أن يولّد إلا التشنج الذي لا يسمح بتطور الشعوب. أو إن هذا مرفوض من الطاقم السياسي الذي يستغل البؤس والجهل لتثبيت سلطته.