جان عزيزأعرف منذ المدرسة وباسكال، أن المُخاطَب المفرد مكروه. لكنّ الموضوع لا يحتمل التعميم ولا التجهيل.
أكتب إليكَ، في هذا التوقيت بالذات، لا قبل ولا بعد. عشيّة تحوّل تهويلك بالاستقالة المبكرة، ورقة ضغط، قد تكون حاسمة لحظوظك الرئاسية، سلباً أو إيجاباً. فيكون كلامي ــ الآن وهنا ــ لا استقواءً عليك إذا رحلت، ولا رجع صدى وسط كرنفالات التطبيل والتزمير، إذا وصلت. أنا بكلّ بساطة، لم أقتنع بحسن اختيارك رئيساً. وذلك لثلاثة أسباب، هي الأساسية على الأقل.
لم أقتنع أولاً، لأنني أخشى أن أظل أرى في صورتك، بعضاً من إرث الحقبة السورية. ولأنني على عكس كثيرين، سأظلّ أعتبر تلك المرحلة تأسيسية. وحدها أقامت سلّماً قياسياً لمعرفة حقائق المواقف والمعادن والرجال.
أعرف نظريات الواقعية السياسية. وأدرك مقولات المصالحات الجماعية وتطهير الذاكرات من الحروب الأهلية. لكنني أعرف أكثر مقتضيات تلك وآلياتها، مما انعدم كلياً عندنا.
تصوّر يا سيّدي لو أن أوروبا الشرقية أعادت انتخاب شيوعييها رؤساء، بعد سقوط الأخ الأكبر. تصوّر لو أن فرنسا بعد التحرير، أبقت بيتان رئيساً، وهو من كان منتخباً ديموقراطياً أصلاً، كمخرج لصراع يسارها واليمين، بطلي التحرير المتنازع على أبوّته.
دعني أصارحك يا سيدي، بأنني أخشى أن أظلّ أرى فيك بعض مسؤولية أدبية على الأقل، عن 7 آب وستة آلاف معتقل تحت مكتبك، كلهم رفاق أحبّة، وعن ظروف أسر سمير جعجع اللاإنسانية، واستدامة نفي ميشال عون في أرضه، أكثر من منفاه التعسفي. وسأظلّ أخشى أن أرى فيك بعضاً من احتفالات وداع غازي كنعان في اليرزة، ورستم غزالة في رياق، وأعياد الأول من آب في ظلّ خطاب المسار والمصير الشهير.
أصارحك يا سيدي، بأن الصراع العدمي العبثي المميت بين ضحيتي الوصاية الوحيدتين، ميشال عون وسمير جعجع، لم يكفني لأبرّر في داخلي عملية إعادة تلميع صور المرحلة الماضية ورموز ظلاميتها، ممّن لم يثبتوا رجالاً مقتنعين، ولم يعتذروا صدقاً مخطئين. فتحوّل البعض من رفاق النضال، أسرى «سندروم ستوكهولم» الشهير، ضحايا يتعاطفون مع جلّاديهم، لم يصلني بالعدوى بعد، لأمنح براءات الذمّة مجاناً. لم أقتنع يا سيدي، لأنني أخشى أن يكون انتخابك إهانة لكل من دفع نقطة عرق أو دم في التحرير، وإحباطاً لكل من يفكر في مواجهة غازٍ في المستقبل.
ثم لم أقتنع ثانياً، بانتخابك رئيساً، لأنك لا تزال في موقعك قائداً للجيش. لا لأن ذلك خرق للدستور وحسب، بل أيضاً وأصلاً لأن في الأمر التباسات بين مؤسستك والديموقراطية، رأساً ووسطاً وقاعدة. فالالتباس التاريخي على مستوى الرأس، يكمن في أن كلّاً من موقعك ورئاسة الجمهورية مرصود لماروني. وهو ما جعل التنافس ــ السلبي طبعاً ــ قاعدة العلاقة بين المركزين، منذ وجدا. وهذا الالتباس هو ما قيل إنه جدّد لبشارة الخوري، و«مدّد» لثورة 58، وجاء باتفاق القاهرة... وصولاً إلى ما نحن فيه معك. فكيف إذا ما أضيفت إلى هذا الالتباس المزمن، واقعة أن تُنتخب أنت بلا تعديل دستوري.
والتباس مؤسستك مع الديموقراطية في الوسط، أن يصير رفاقك «حكومة ظل»، في ظل رئاستك، وإدارة رديفة إلى جانب إدارتك، وتتحوّل الرؤوس الفوق النجوم، مشاريع زعامات في نظامنا المتخلِّف زبائنية حتى العظم.
ويبقى التباس موقعك مع الديموقراطية في القاعدة. تصوّر أن تكون رئيساً، وأن تقوم «حكومتك» و«إدارتك» هاتان، فيصير القطاع العام، أي نحو 250 ألف راتب شهري، قاعدة حزبك الحاكم، ويصير نحو ثلث القوى العاملة في مجتمعنا، رهن «حزب حاكم» في عالم ثالث، لا نتوهّم غير ذلك يا سيدي.
ولم أقتنع ثالثاً والأهم، نظراً إلى مستوى الوعي والسلوك السياسيين لدى طبقة «بارونات» السياسة والصالونات، والاقتصاد. هل شاهدت يا سيدي صورك المرفوعة منذ مدة؟ هل سألت عن هويات «مقدميها» و«متبرعيها»؟ هل علمت أن ذاك المتورّط في نشاطات غير قانونية مع الأجهزة السورية، كان أول داعم «صوري» لك؟ لا ليس صاحب تلك المؤسسة بالذات، ولا الآخر. غالبية أمثالهما. وهل أدركت كيف لصاحب النادي الرياضي ذاك، أن صار من أبرز المتحمسين لك، بعدما كان «راعى» خلفك، طيلة تنقّله في شوارع بيروت بمواكبة سورية؟ وهل شاهدت لافتات التأييد المرفوعة لك من رئيس تلك البلدية؟ هو نفسه من رفع لافتات مماثلة في كل العهود.
إني أخشى يا سيدي من رئاستك، أن تمدّد عهد الاستابليشمانت الأكثر تكلّساً في عصرنا، وأن تعيد نبش المومياءات المنخورة من القبور والبيوتات، وأن تحصر مفهوم الاستحقاق، بالخارجين من إخراجات القيد العائلي، أو من دفاتر الشيكات، أو من معلّقات المديح الممجوج.
لكل ما سبق، وللكثير مما يبقى في الوجدان، اسمح لي يا سيدي، إذا وصلت، بألّا أكون بين الموالين. وإن لم تسمح، فسجّلني منذ الآن مع حفنة الحالمين المعارضين، وإن لا معارضة. ولا تنسَ أن كل ما سبق، مسؤولية فردية شخصية، لا علاقة لأي فرد آخر سواي بها، فاقتضى التنويه.