strong>دماؤه تجري في عروق 78 إنساناً والمخزون لم ينضب بعد!
قوميُّ عتيق. شبّ مؤمناً بأن عطاء الدم هو أفضل العطاء فتبرّع به ولا يزال. لم يتوانَ يوماً عن تلبية نداء الواجب كلما دُعِي إليه، وخصوصاً أنه مختصّ أيضاً بتصليح الأعطال الكهربائية. إنه أبو أسد حمية

رامح حمية
قلائل في المنطقة يعرفونه باسمه الكامل وسط زحمة الأسماء المشابهة، ذلك أن العشرات في طاريا يحملون اسم «علي حسين حمية»، لكنك سرعان ما تجده حين تسأل عن «أبي أسد». الكلّ يعرفه في منطقة غربي بعلبك والجوار. في مستشفيات بعلبك وزحلة يسألون عنه إذا ما احتاجوا إلى «وحدة دم» أو أكثر من فئة +O، ويرسلون في طلبه من شرق بعلبك إلى غربها إذا ما انقطع سلك كهرباء هنا أو انفجرت ماسورة مياه هناك، فهو جاهز للقيام بالواجب على أكمل وجهأبو أسد»، ابن العقود الستة، بنك دم يتجول على قدمين إن أردت، وعامل صيانة متطوع في مؤسسة الكهرباء لو أحببت. يفعل ذلك طواعية وتطوعاً و... «لوجه الله الكريم». إن سألته عن سر حيويته الدائمة وشبابه المتجدد رغم تجاوزه الستين يجيب: «ليس هناك سرّ، كلّ ما في الأمر أن الدماء التي تجري في عروقي تبقى طازجة وجيدة على الدوام، إذ لا يكاد يمر شهر واحد من دون أن أتبرع بوحدة دم على الأقل».
وعما إذا كان هذا الأمر دافعه الوحيد للتبرّع بالدم، ينفي «أبو أسد» قائلاً: «لا، المسألة أعمق من هذا بكثير، لأنها تنطلق من قناعة دينية أولاً، ومن عقيدة قومية راسخة ثانياً. فمن يتنازل عن جزء من دمه بغية إنقاذ إنسان ما، فكأنه أحيا ذلك الإنسان كما ورد في القرآن الكريم: (من أحيا نفساً كأنما أحيا الناس جميعاً)، إضافة إلى أني قومي ومؤمن بمبادئ حزبي وعقيدته التي تنص بهذا الشأن: على أن الدماء التي تجري في عروقكم ليست ملككم بل هي وديعة الأمة فيكم متى طلبتها وجدتها. واستناداً إلى هاتين الشريعتين، أعتقد أني بتنازلي عن كمية من دمي لهذا الإنسان أو ذاك، أكون قد سدّدت جزءاً من وديعة الأمةوعن عدد المرات التي تبرّع فيها «أبو أسد» بالدم يقول: «حتى الآن تجري دمائي في عروق أكثر من 78 إنساناً من أبناء بلدتي والقرى المجاورة، لكلّ واحد منهم وحدة دم (500 غرام)، فيكون بالتالي مجموع الوحدات التي تبرعت بها 78 وحدة، أي 39 ليتراً، ومثل هذه الكمية تبلغ سبعة أضعاف الدم الموجود في جسم الإنسان».
يحتفظ علي حمية ببطاقات التبرع من مختلف المستشفيات في البقاع (رياق ــ دار الأمل الجامعي ــ الططري ــ تل شيحا ــ لبنان الفرنسي ــ مؤسسة عامل ..) وبيروت.
بدأ التبرع «من عام 1975 في مستهل الحرب الأهلية اللبنانية، وصولاً للعام 2007»، وفي الفترة الأخيرة بات يتبرّع بالدم من دون الحصول على بطاقات، لكنه يعمد إلى تسجيل اسم كلّ من يتبرع له مع التاريخ واسم المستشفى: «أردت التميّز منذ نعومة أظافري، لا سعياً وراء تحطيم رقم قياسي، بل رغبة في تحقيق موقف عزّ في حياتي. الشهيد يبذل دمه مرة واحدة ويروي تراب وطن أحبّه، وأنا سعيت وأسعى جاهداً إلى بذل دمي لأروي مهجاً بدل التراب، وأسقي أرواحاً عطشى للبقاء والحياة».
strong>الإنسان قبل الطائفة
شارك علي حمية، في بداية الحرب اللبنانية، في أكثر من مواجهة ومعركة ضد ما كان يسمّى «القوات الانعزالية»، بصفته عضواً في صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي. وفي إحدى المعارك على محور الشياح ـــ عين الرمانة، أسر رفقاؤه مقاتلاً «انعزالياً»، بعد إصابته بجروح بالغة في بطنه وعنقه، فنقلوه إلى أحد مستشفيات الضاحية الجنوبية، حيث كان موجوداً لفك «قطب» جرح كان أصيب به قبل أسبوع جراء شظية أطاحت «دشمته» الرملية وكادت تقتله.
يقول: «رأيت الجريح عند إدخاله إلى غرفة العمليات، لكنني لم أكترث للأمر كثيراً، وبينما كنت أهم بمغادرة المستشفى سمعت إحدى الممرضات تسأل بصوت عالٍ: هل هناك أحد هنا يملك دماً فئة +O؟ عدت مهرولاً وقلت للممرضة إني أحمل تلك الفئة، فنصحتني بعدم التبرّع لأنني فقدت الكثير من الدم عندما أصبت، لكنني أصررت، وخصوصاً حين عرفت أن حياة الجريح تتوقف على نصف ليتر من الدم».
يضحك وهو يتذكر طرافة ما حدث: «تبرّعت بالدم وكدت أدفع حياتي ثمناً لأني لم أكن استرجعت كامل قوتي ودمائي. شعرت بالضعف والانحطاط ولم أعد أقوى على الوقوف، فأغمي عليّ قبل أن أخرج من غرفة سحب الدم، ومكثت أسبوعاً إضافياً في المستشفى تحت المراقبة».
يؤكد «أبو أسد» أن تصرّفه يومها كان نابعاً من مفهومه الديني والعقائدي الذي يقضي بأن الإنسان قبل الطائفة، وأن الروابط الأخلاقية والإنسانية تطغى على تلك المذهبية. ويستشهد بتعريف «الزعيم أنطون سعادة للدين: كلنا مسلمون لربّ العالمين، منا من أسلم بالإنجيل، ومنا من أسلم بالقرآن»، يضيف «إن للحرب قواعدها الخاصة، فهذا الشخص لم يكن مسلحاً بل كان إنساناً أسيراً مصاباً ويحتاج للبقاء والحياة».
قوميُّ... حتى الرمق الأخير!
يفاخر «أبو أسد حمية» بتاريخه الحزبي وإيمانه بالمبادئ القومية، ومواكبته نهضة الحزب، بالإضافة إلى المعارك التي خاضها في مواجهة «الانعزاليين» خلال الحرب الأهلية اللبنانية. فقد انتسب للحزب السوري القومي وأقسم اليمين الحزبية عام 1955، ولا يزال حتى اليوم يختزن بين ثنايا ذاكرته صور الماضي الحزبي وفترة فراره مع رفقاء له إلى سفوح السلسلة الغربية بعد فشل محاولة الانقلاب على نظام الرئيس فؤاد شهاب في 12/12/1961. يذهب بنظراته بعيداً، موغلاً في الأيام الغابرة «استمررت بالفرار ثمانية أعوام حتى صدور قرار العفو عام 1969. كنت برفقة عدد من الرفقاء، واجهنا خلالها أوقاتاً صعبة في أحراج سفوح السلسلة الغربية، أما زيارتنا لأهلنا فكانت حسب
الظروف».
ولأنه قومي منذ نعومة أظافره «حتى الرمق الأخير من حياته» كما يقول، «أطلق على ابنه البكر اسم أسد «تيمناً بالأمين أسد الأشقر»، أما ابنته فسمّاها «سوريا». وبينما يقلب صفحات جريدة «لسان الحال» التي يحتفظ ببعض أعدادها كأرشيف، وصحف مختلفة رافقت تلك الفترة يقول: «عقيدة الحزب القومي فكر وتراث، ولا يمكن التخلي عنهما، وأقوال الزعيم أنطون سعادة مأثورة وخالدة تدرّس للأجيال عبر الأزمنة».
تمر السنون على عجل فتراه اليوم كما الأمس البعيد، مع تغيير بسيط، إذ يقضي معظم أوقاته مقابل تلفازه الذي يعدّه «رفيق أوقات فراغي» ليبقى على اطلاع على أوضاع لبنان وفلسطين والعالم العربي.


حكمة
الروح وديعة الله

حياة «أبو أسد» مليئة بالتشويق والإثارة لكثرة الحوادث التي تعرّض لها واستطاع أن ينجو منها بأعجوبة محافظاً على حياته. يعدّه أهالي بلدته طاريا «محظوظاً»، وخصوصاً عندما يسرد تفاصيل هذه الحوادث. يذكر أنّه تعرض خلال معارك عين الرمانة ـــ الشياح (الحرب الأهلية) إلى إصابة دشمته بقذيفة، فأصابته إحدى الشظايا مخترقة صدره وخرجت من ظهره. كما تعرّض لاحقاً لطلقة كلاشنيكوف اخترقت وجهه وخرجت من أذنه اليمنى.
وإذا كانت الحرب لم تتمكن من سلبه حياته، فإن الكهرباء حاولت جاهدة القيام بذلك لكنها لم تستطع أيضاً. فقد صعقته ثلاث مرات خلال أعماله التطوعية لمؤسسة كهرباء لبنان ولم تقض عليه: «الروح وديعة الله، وطالما ما خلص عمرك فبالتأكيد ما رح تقتلك شدّة».