من الجنوب إلى الشمال تجتمع الخيوط لتشييد بناء «فتح الإسلام»انتهت حرب تموز، وتركت خلفها مئات من المجاهدين العرب الراغبين في الجهاد، ولكن على أرض لبنان. واتُّخذ قرار متقاطع بين عدّة مجموعات بتجنيب مخيّم عين الحلوة الكأس الأمنية المرّة، فكان التأسيس لنهر الباردفداء عيتاني
كان خريف لبنان عام 2006 حزيناً. البلاد خارجة من حرب قاسية نحو انقسام سياسي قاتل، ومخيّم نهر البارد يعيش حياته التجاريّة التي تعرّضت لنكسة مع الانسحاب السوري من لبنان، إلا أنها عادت وانتعشت، من دون أن يتحسّن معها الجانب الاجتماعي في المخيم. حدث ذلك، فيما الوضع الأخلاقي استمرّ بتراجع مطّرد مع انتشار الرذيلة والمخدّرات وحالات السكر الصاخبة لشبّان منتمين إلى تنظيمات فلسطينيّة. وستجد دائماً من يتّهم السلطات اللبنانيّة بتسهيل الرذيلة في المخيمات الفلسطينية،
وكذلك تسهيلها عبور أسلحة خفيفة تقتل سكّان المخيّمات، ولا تؤذي من هم خارجها. في ظلّ هذه الأجواء، خرجت «فتح الإسلام» إلى العلن.في بداية الشهر الأخير من عام 2006، شهد البارد زيارة من الفلسطيني السوري عبد الله خضرجي، وهو شاب يبلغ من العمر 34 عاماً. خضرجي كان أحد كوادر «فتح ــ المجلس الثوري» قبل أن يتركها، وسبق له أن خضع لدورات أمنية وعسكرية في ألمانيا الشرقية في نهاية الثمانينات، لدى جهاز المخابرات الألمانية الشهير، «الشتازي». وصل الشاب إلى البارد يرافقه عدد من القياديين الجهاديين من القاعدة: قاسم الدليمي، محمد الدليمي، عبد الله الدليمي، خالد البطاطي، عارف مجلي، وإبراهيم الهويدي. أمضت المجموعة وقتاً في المخيم ثم انطلق كلٌّ من عناصرها بمفرده إلى أحد المخيمات الفلسطينية، وبدأ العمل على تشكيل خليّته في إطار دعم حركة جهادية تشمل لبنان وعدداً من الدول العربية والأوروبية.
أسابيع قليلة مرّت قبل أن تعمد، في بداية عام 2007، ما سنطلق عليه اسم «مجموعة الشمال» الجهادية، وهي مجموعة سبق لها أن فرّت من شمال لبنان عام 2000 إلى مخيم عين الحلوة، إلى الانتقال من هذا المخيّم المذكور إلى البارد في الشمال، تنفيذاً لتعليمات مسؤولين قاعديّين. ومع توافد عناصر هذه المجموعة، بدأ العمل على توسيع النشاط الإسلامي الجهادي في البارد من جهة، وإبعاد التهديدات الرسمية اللبنانية عن مخيم عين الحلوة من جهة ثانية، وخصوصاً مع بروز كلام سياسي وإعلامي وأمني عن عزم الجيش اللبناني الانتشار في منطقة التعمير في عين الحلوة التي تعدّ معقلاً لهذه المجموعة الجهادية.
«مجموعة الشمال» هذه كثيراً ما كانت تمثّل جزءاً من جند الشام. وفي حينه، انتقلت هذه المجموعة نحو البارد لدعم الانتفاضة التي قام بها سبعون عنصراً انشقّوا عن حركة «فتح الانتفاضة» (27/11/2006)، واحتلّوا حوالى خمسة مواقع، وأعلنوا تنظيمهم الجديد باسم «فتح الإسلام»، متّخذين من مؤسّسة «صامد» في المخيّم مركزاً رئيسياً، إثر اشتباك وقع في مخيّم البداوي في 23 من الشهر نفسه، وقررت على أثره المجموعات الجهادية الانكفاء إلى نهر البارد وإعلان انطلاقتها رسمياً.
أما تنظيم جند الشام، فلم يتأثر عملياً بهذا الإجراء، وخصوصاً أنّه ـــــ رغم كونه عبارة عن عشرات المقاتلين لا غير برئاسة الشيخ الفلسطيني أسامة أمين الشهابي ــــــ من أبرز التنظيمات التي تنسّق مع «القاعدة» وتتلقّى منها الدعم والتمويل، وله خلايا جهادية في سوريا تتوزّع بين حماه، إدلب، حلب، السلمية، تدمر، ويشرف عليها السوري مروان ك. «أبو الستار»، وهو يقيم في إحدى قرى حماه، ويتردد إلى دمشق ولديه اتصالات مع علماء الدين السلفيين في البقاع الغربي في لبنان.
في البارد، أعلنت مجموعة الشمال ولاءها لمسؤول حركة «فتح الإسلام» شاكر عبسي، ولمعاونه اللبناني شهاب قدور. وكان قدور في تلك الفترة منهمكاً بنقل متفجّرات من نوع C4 وذخائر متنوّعة إلى البارد.
ما لم يُلحظ مرّةً لا إعلاميّاً ولا أمنيّاً كان الانتقال المفاجئ الذي قامت به في الوقت عينه مجموعة أخرى ضمّت خمسين مجاهداً من مخيم برج البراجنة، متخلّيةً عن موطئ قدمها في الضاحية الجنوبية لبيروت لتستقرّ في نهر البارد هي الأخرى.
كانت «فتح الإسلام» تستضيف الوافدين، وتنظّم شؤونهم، وتعمل على استيعابهم في أجهزتها العاملة في المخيم. وظهرت لدى الحركة الناشئة إمكانات مالية مقبولة، ونوع من التسلّح الفردي الخفيف والذخائر الحديثة، وإن كانت خفيفة بأغلبها. كلّ ذلك بدأ يشي بهوية هذا التنظيم، أو على الأقلّ بعلاقاته خارج لبنان. وكانت المعلومات المتداولة في شهر كانون الثاني عام 2007 تؤكد أن «فتح الإسلام» هي أحد فروع «القاعدة» في لبنان.
تراكمت الجهات الداعمة لحركة «فتح الإسلام». بدأ يظهر اسم ج. خ.، أحد مسؤولي الحركة الإسلامية المجاهدة في عين الحلوة، بصفته قدّم دعماً مالياً لـ«فتح الإسلام»، من خلال مسؤولين قاعديّين في الخارج. أمّا تدريب العناصر المحدثين في العمل القتالي، فتولّاه المسؤول العسكري لتنظيم جند الشام الفلسطيني عماد ي. البالغ 40 عاماً من العمر.
في ذاك الوقت، وصلت وفود رسمية للمشاركة في مؤتمرات إسلامية من المملكة العربية السعودية، وبقي العديد من أعضائها في لبنان، كما وصل شبان للسياحة من مناطق عدة في العالم العربي، واختفت آثارهم في لبنان، ولم يكن مطار رفيق الحريري الدولي وحده من يستقبل القادمين لمشاركة «فتح الإسلام» جهادها، بل دخل العشرات من المقاتلين وبعض المجموعات الجهادية بكامل عناصرها، من سوريا عبر طرق غير شرعية، وانخرطت هذه المجموعات والعناصر تحت لواء التنظيم الجهادي الحديث النشأة. وغالباً ما كانت سوريا تُتّهَم بإرسال فتح الإسلام إلى لبنان، إلا أن سوريا، في واقع الأمر، غضّت النظر عن هذه المجموعات التي فرّت من المطاردة في أرض الشام نحو «جنّة المجاهدين» في شمال لبنان. لم تكن دمشق ترحّب بأيّ شكل من الأشكال بالجهاديّين على أراضيها، وربما كانت ترى أنّ وظيفتهم تكمن في الهروب إلى العراق لزيادة الأزمة الأميركية هناك، أو فليتمّ التخلّص منهم ورميهم إلى لبنان عبر مطاردات لا تهدأ. ويمكن القول إن سوريا مارست أحد أساليبها القديمة في التخلّص من أزماتها، عبر نقلها إلى البلد الصغير الضعيف المجاور: لبنان.
ووفدت إلى لبنان من الحدود السورية مجموعة بقيادة التونسي أحمد رجب، وهو أحد كوادر «القاعدة». يستقرّ الشاب في ضيافة غاندي السحمراني في عين الحلوة في مركز لتنظيم جند الشام. وغاندي، أو أبو رامز الطرابلسي، لبناني من مواليد عكار عام 1964، وهو من المسؤولين العسكريين في «جند الشام»، ومطلوب من السلطات اللبنانية بموجب مذكرات توقيف بتُهم الإرهاب والقتل وتهريب وحيازة الأسلحة والمتفجّرات.
وفي تلك الفترة المتأزمة داخلياً، كانت المجموعات الجهادية تتلقّى إشارات متنوّعة من قياداتها، وتضع أحياناً خططها الخاصة، متأثّرةً بالأجواء والأهواء المحلية، إذ بدأت إحدى المجموعات تخطّط، لتنفيذ عملية استشهادية في بيروت ضد التجمعات المعتصمة في ساحتي رياض الصلح والشهداء، بغية إشعال معركة بين السنّة والشيعة. إلا أن الأمر لم يصل حد محاولة التنفيذ، ولا حتى التخطيط الجدي، وبقي في إطار الأفكار التي جرى تداولها. ولم تسمح القيادات القاعدية بتحويل الفكرة إلى مشروع.
مع تجمّع الخيوط بين المجموعات الجهادية في البلاد، يصل إلى البقاع أحد أكثر الشبّان ديناميكيّة بين الجهاديّين العرب، فهد المغامس، المعروف باسمه الحركي أحمد إبراهيم التويجري (أبو جعفر)، وهو قيادي في تنظيم «القاعدة» ومطلوب في عدة قضايا في لبنان من ضمنها شبكة الـ13، وقد تابع عمله الجهادي إلى حين إلقاء القبض عليه وإحالته أمام المحاكم في وقت لاحق عام 2007. عقد المغامس سلسلة من الاجتماعات جرى خلالها البحث في نقل العمل الجهادي إلى لبنان.
غداً: غرف عمليّات دوليّة وإعادة هيكلة


اجتماعات المغامس
حين وصل المغامس إلى البقاع، كانت درجات الحرارة تنخفض دون الصفر ليلاً، ويكاد يتعذّر التنقّل فوق الجليد الذي يمسك بالاسفلت. عقد المغامس سلسلة لقاءات في مناطق شتورا في البقاع الأوسط، ضمّت إليه مجاهدين لبنانيين وفلسطينيين، في سعدنايل خاصة، كما في قرية لوسي في البقاع الغربي، حيث التقى علي بيضون، من مواليد 1979 مجدل عنجر، متّهم في قضية الخطيب مع التويجري، وجهاد ضاهر (أبو الدحداح) من مواليد 1982 القرعون، متّهم في قضية الخطيب مع التويجري، بالمشاركة مع مجموعة الـ13، ولم تتمكن القوى الأمنية من إلقاء القبض عليه. كما التقى المغامس أيضاً معين عبد الرحمن، فلسطيني من مواليد 1975، متّهم مع التويجري بقضية اسماعيل الخطيب، وورد اسم معين خلال التحقيقات مع شبكة الـ13 من دون التأكيد إن كان الشخص نفسه. وكان آخر من شارك في الاجتماعات غازي ط. سوري الجنسية، مواليد حلب، ويلقّب بأبو قسورة.