جان عزيزفيما كان نبيه بري منطلقاً صوب دمشق، متحدثاً مفاوضاً باحثاً وباتّاً، باسم طائفة كاملة، وأكثر من طائفة ربما، كان الحديث في «الشارع» المسيحي متوزّعاً بين تقدير سمير جعجع لتراجع تمثيل ميشال عون، والترقّب لمآل الوساطة بين بكركي والرابية.
ومفارقة الموقفين في «الشارعين» الشيعي والمسيحي، تذكّر بالزيارة اليتيمة التي قام بها جعجع إلى بري بعد انتخاب الأخير رئيساً للمجلس النيابي سنة 1992. بدأ الحديث بين الرجلين يومها في حي بربور، عن الأوضاع المتماثلة لكلّ من «أمل» و«حزب الله» شيعياً، و«القوات» و«تيار الجنرال» مسيحياً. وكان نوع من المقارنة القياسية، قيل إن بري ختمها بالخلاصة التالية: قصتنا مع حزب الله، كما قصتكم مع عون، مثل الناظر إلى كوب مملوء لتوّه بمشروب غازي (كولا).
فكلما كان المشروب ساخناً كانت رغوته كبيرة، ما يوحي إلى الناظر بحجم أكبر من الحقيقة. وعلى العكس، كلما بردت الأجواء وانتفت عوامل السخونة، اختفت الرغوة الزائدة وباتت الأحجام على حقيقتها.
مضى نحو عقد ونصف على تلك الواقعة، وأكثر من تطوّر مفصلي أعقبها. دخل جعجع إلى الأسر ليخرج منه بعد 11 عاماً. ذهب عون إلى المنفى ليعود بعد 14 سنة. خرج الإسرائيليون قسراً، فانتصر حزب الله، ثم خرج السوريون مكرهين فظن البعض أن ثمّة من هزم في الداخل... ولم يتغيّر في معادلة الكولا تلك، أو يتطوّر، إلا نبيه بري.
لقد أدرك «الأستاذ» أنه ينتمي إلى جماعة، كل أيامها سخونة، وكل فصولها حرّ وقيظ، وكل طقوسها مفتوحة على أحجام كبيرة، لمن يرغي ويزبد، ما دام المنطوق قضايا حق بالنسبة إلى جماعته، من «إسرائيل الشر المطلق»، إلى «لبنان الشراكة المطلقة». وبين الاثنين، لا تبديل في المناخات الشيعية، ولا تعديل بالتالي في أحجام قواها. ها هي، ثابتة صامدة، قبل التحرير وبعده. قبل انتفاضة الاستقلال وبعدها. قبل 12 تموز وبعد 14 آب... فوقف نبيه بري في صور، ليقول تلك العبارة الشيعية السحرية: «إن أمل وحزب الله...»، فكفى بأبناء طائفته ضمانة للانتصار في أي مواجهة، وبعيداً عن رهانات الأحجام وعقد الإحجام. وحدهم المسيحيون، بدوا حتى اللحظة وما سيليها، كأنهم لم يدركوا هذا الدرس. ولم يتعلّموا هذا الاختبار، ولم يستخلصوا تلك العبرة.
ووحدهم زعماء المسيحيين بغالبيتهم، ظلوا يتعاملون بعضهم مع بعض ومع بيئتهم وشارعهم ومقاربتهم لقضايا الوطن، بخلفية انتظار المناخات الأكثر برودة والأحجام الأكثر مؤاتاة. ولو أدّى الوقت الفاصل بين الأوهام وخيباتها، إلى اجتياح سوري لأرضهم والبشر، طيلة 15 عاماً، أو دخولهم في ذمّة «حزب حاكم»، إبّان الوجود السوري، أو حتى بعد زواله.
ما هي أسباب الفارق بين الطرفين والجماعتين؟ قد تطول لائحة الاحتمالات المتخيّلة لذلك: التزام جماعي أكثر وضوحاً وصلابة لدى الشيعة، في مقابل «فردانية» مسيحية جليّة. إحساس أكبر بالانتماء أرضاً وجماعة هناك، في مقابل «تغرُّب» مزمن هنا، وانطباع عمره قرون بأن المرحلة الراهنة، كل مرحلة راهنة، هي الفرصة لحزم الحقائب. تناغم أكبر هناك بين قوى السياسة و«المؤسسة الدينية»، المتشابكة أصلاً مع «المؤسسة السياسية»، في مقابل تنافر لم يعد خافياً هنا، بين الزمني والروحي في المؤسستين والفكرين والأشخاص والسلوكيات. حضور القضية «الصحّ» هناك، أقلّه بالنسبة إلى وجدان الجماعة، بين «إسرائيل العدو» ولبنان النهائي منذ وثيقة موسى الصدر سنة 74، في مقابل غموض عقائدي كامل هنا، بلغ حد القتال على الجبهات «الغلط»، وحتى الاقتتال من دون ندم أو ربما علم.
تطول لائحة الاحتمالات والأسباب المتخيّلة لهذا التناقض الجذري الصارخ، بين الواقعين الشيعي والمسيحي، لكنها لا تلغي قطعاً، علّة أخرى ممكنة واضحة. إنها حقيقة الأشخاص وطبائعهم ومدى شفافيتهم أو باطنيتهم في السياسة والسلطة والشأن العام. فحركة أمل وحزب الله الخارجان من رحم تيار موسى الصدر، عرفا كيف يلتقيان في ذكرى تغييبه على الأقل، فيما المسيحيون الخارجون على الأقل من رحم «جبهة الحرية والإنسان»، لم يتعلّموا فضيلة اللقاء، لا في الغياب القسري ولا في الحضور الناقص والمنتقص. والأهم أنهم لم يقتنعوا بأن تكون ديموقراطيتهم الداخلية حكَماً لذلك في ما بينهم.
هكذا يذهب نبيه بري إلى دمشق والرياض باسم المعارضة، ويذهب فؤاد السنيورة إلى القاهرة باسم الموالاة، ويكتفي المسيحيون بالهلع من بيعهم أرضهم إلى «الغرباء»، في عود على بدء الحرب وحروبهم وذاكرتهم الوليدة حديثاً كل يوم.