نقولا ناصيفالزيارة الأولى لرئيس المجلس نبيه برّي لدمشق البارحة (7 نيسان)، منذ آخر زيارتين له، رمت إلى تعزيز وجهة نظره القائلة بتداخل العامل الخارجي بالعامل الداخلي في الأزمة الدستورية والسياسية. كانت الزيارتان الأخيرتان في 7 أيار 2006 ثم في 29 حزيران في محاولة لفتح قناة اتصال بين رئيس الحكومة فؤاد السنيورة والقيادة السورية لمناقشة تردي علاقات البلدين. حينذاك لم تكن هذه العلاقات قد تدهورت إلى أدنى حدودها كاليوم، ولا دمشق أنعشت دورها وتدخّلها في الشؤون اللبنانية كاليوم أيضاً.
لكن جهود رئيس المجلس أخفقت بسبب إحجام السنيورة عن زيارة العاصمة السورية، واعتقاد الغالبية النيابية بأن أوان تصويب علاقات البلدين ينتظر إضعاف نظام الرئيس بشار الأسد وممارسة مزيد من الضغوط عليه. كانت زيارة 29 حزيران قد تزامنت مع جولات الحوار الوطني في ساحة النجمة وغداة إعلان الأسد أن أبواب دمشق مفتوحة أمام المسؤولين اللبنانيين.
قيل حينذاك أيضاً إن زيارة برّي لدمشق توخّت فتح باب مناقشة العلاقات اللبنانية ـــــ السورية بين الطرفين المعنيين، لبنان وسوريا، مباشرة دون دخول طرف ثالث فيها. وهو ما تتطلّبه سوريا في كل مرّة كانت تدعى إلى مناقشة جديدة للعلاقات اللبنانية ـــــ السورية. وهي في أبسط الأحوال، اليوم كالأمس، لا تريد شريكاً عربياً أو دولياً إلى طاولة هذا «الحوار» لئلّا تفقد قدرتها على المناورة، وكي لا تجد نفسها مقيّدة بشروط تحملها على تنازلات ترفضها.
لذا علّقت باستمرار الخوض في علاقات البلدين على توافق اللبنانيين باعتباره شأناً لبنانياً ـــــ لبنانياً قبل أن يمسي شأناً لبنانياً ـــــ سورياً.
بذلك تصبّ الزيارة الثالثة لبرّي أمس في منحى تأكيد حجته القائلة بأن طلب مناقشة ملف العلاقات اللبنانية ـــــ السورية يقتضي أن يبدأ باتصال بين البلدين، من غير أن يتجاهل ما راح يردّده منذ أشهر وهو أن تسوية الأزمة اللبنانية تحتّم تفاهماً سورياً ـــــ سعودياً.
قالها للمرة الأولى في كانون الأول 2005 إثر اعتكاف الوزراء الشيعة، وعمل على إنجاح ما عُرِف بـ«وساطة الرياض» ـــــ ولم تكن المملكة بعد طرفاً منحازاً في النزاع اللبناني الداخلي ـــــ التي لم يُكتب لها النجاح إلا متأخرة مع عودة الوزراء الشيعة إلى الحكومة، ثم استقالتهم مجدّداً منها في 11 تشرين الثاني 2006.
وهكذا تقيم الأزمة اللبنانية تارة في صورة العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، وطوراً في صورة العلاقات السورية ـــــ السعودية.
وخلافاً لما يريده برّي، ترغب حكومة الغالبية في مناقشة العلاقات اللبنانية ـــــ السورية في ظلّ شاهد عربي أو خارجي، سواء كانت الجامعة العربية أو الأمم المتحدة، الأمر الذي ترفضه دمشق.
إلا أن السنيورة أعاد تأكيد هذا الموقف، عشية القمة العربية في دمشق، عندما خاطب الزعماء العرب في 28 آذار، داعياً إياهم إلى فتح ملف العلاقات اللبنانية ـــــ السورية في اجتماع استثنائي لوزراء الخارجية العرب. وحتى الساعة لم تلقَ الدعوة آذاناً صاغية، بيد أن معطيات عدة أحاطت بهذا الملف:
1 ـــــ على طرف نقيض من انطباعات واشنطن عن القمة، وهي أنها كانت فاشلة، نظرت إليها الدبلوماسية الفرنسية نظرة مختلفة وأقرب إلى الواقعية بقولها إنها لم تمثّل فشلاً كاملاً ولا نجاحاً كاملاً، وإن المشاركة فيها كانت أدنى مما توقّع المسؤولون السوريون أنفسهم حتى بالنسبة إلى دول عربية، كالأردن، تحسنّت علاقتها بسوريا في الأشهر الأخيرة.
وبعدما شارك منذ عام 2005 في قمة الجزائر 14 زعيماً عربياً، وفي قمة الخرطوم 13 زعيماً عربياً وفي قمة الرياض 17 زعيماً عربياً، حضر قمة دمشق 11 زعيماً عربياً، أحدهم الرئيس المضيف. أضف أن باريس لاحظت رغبة دمشق في إنجاح قمة تعقد على أراضيها باعتماد لغة معتدلة وهادئة، وأن غياب لبنان أعطى سوريا مبرّراً لتغييب أزمته في مناقشات الزعماء العرب. مع ذلك لمست الدبلوماسية الفرنسية من نتائج قمة دمشق أن هذه استوردت من لبنان أزمته.
وعوض أن تتوصّل إلى حلّ لها صدّرتها أزمة عربية ـــــ عربية باتت توجب تصويب العلاقات العربية ـــــ العربية، وتحديداً بين دمشق والرياض ودمشق والقاهرة قبل التوصّل إلى وضع الحلّ اللبناني موضع التنفيذ.
2 ــــ خلافاً لما عدّته واشنطن كسباً سياسياً للبنان بتضمين موضوع العلاقات اللبنانية ـــــ السورية في البيان الختامي، وجدت الدبلوماسية الفرنسية أن الأمر لا يعدو كونه من باب لزوم ما لا يلزم، وهو ليس اكتشافاً لقمة دمشق. ذلك أن تبنّي الزعماء العرب هذا الملف وتكليف الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى مناقشته مع الدولتين المعنيّتين، ليسا إلا تكراراً لموقف عربي سابق ومعروف منذ إصدار مجلس الأمن في 17 أيار 2006 القرار 1680 الذي فتح ملف العلاقات اللبنانية ـــــ السورية واسعاً، ورسم إطاراً له حضّ دمشق على التزامه هو ترسيم الحدود المشتركة بين البلدين وخصوصاً في مزارع شبعا للتيقّن من لبنانيّتها وإجراء تبادل دبلوماسي كامل بينهما على مستوى السفارة.
ورغم تشجيع القرار 1680 سوريا على التعامل معه بإيجابية، تجاهلته هذه تماماً، لم تنجح في سحبه من التداول، إلا أن المجتمع الدولي هو الآخر لم يجعله في أولويات اهتمامه. دعم المبادرة العربية فإذا بها توجّه الانتباه إلى الحل اللبناني الداخلي دون ملف العلاقات اللبنانية ـــــ السورية.
3 ـــــ تبدو واشنطن أكثر إلحاحاً من باريس على ربط مناقشة ملف العلاقات اللبنانية ـــــ السورية بحكومة السنيورة بحيث تنجزه هذه في ظروف دولية ملائمة وفّرها سلفاً القرار 1680، تساعدها في تصحيح علاقات البلدين إلى طاولة تفاوض متكافئ، وتلاقيها في هذا الموقف قوى 14 آذار بما ينقض جهود رئيس المجلس الذي يدفع في اتجاه مناقشة هذا الملف بين البلدين حصراً. وهو أمر يعبّر في الوقت نفسه عن عدم استعجال واشنطن تأليف حكومة وحدة وطنية تنقل الخلاف على العلاقة مع سوريا إلى داخل الحكومة اللبنانية عوض أن ينفجر في وجه
دمشق.