strong>شارع يخيف جيرانه... ويبحث سكانه عن مرجعية أمنية
هو حيّ مختلف، يسهل قول ذلك عندما تقسّم الأحياء مذهبياً وإثنياً. وهو حي مختلف عندما يعدّ الدخول إليه مغامرة حقيقية بسبب المشاكل اليومية التي تقع فيه والصيت الذائع عن أبنائه. إنه حي الأكراد الذي يقع بمحاذاة مخيم البرج للاجئين الفلسطينين و«حي البعلبكية» في الضاحية الجنوبية

أحمد محسن
لا يختلف مدخل شارع الأكراد عن غيره من مداخل الشوارع في منطقة برج البراجنة. تراه يعجّ بالناس من شدة ضيقه وليس من كثرتهم. في داخله يتكرّر المشهد الذي تعيشه الضواحي الرازحة تحت وطأة الحرمان والإهمال: تتلاصق الأبنية تلاصقاً مخيفاً ويطبع الفقر صورته في أرجاء الحي حيث يركل الأطفال الكرة بصورةٍ يومية، ويلهون أحياناً قرب مبنى ينمو بصورة سريعة على عكس حالتهم هم أبناء الأحياء الفقيرة. أما في الليل، فيغزو الشبّان بوابة الشارع، ويسهرون حتى وقتٍ متأخر. كثيرون لا يترددون في الحديث لمحو صورة سيئة عنهم يشتهرون بها في محيطهم.
strong>تأرجح الهوية
عماد (36 سنة) يفتخر بأصوله العربية. هو وعائلته يتحدّرون من قبيلة عربية هاجرت من شبه الجزيرة العربية منذ زمن بعيد قبل أن تستقرّ في منطقة ماردين التابعة للجمهورية السورية، وصاروا يسمّون وفقاً للمناطق التي أتوا منها، وذلك بعد تقسيم منطقة ماردين بين سوريا وتركيا في ثلاثينيات القرن المنصرم، حيث استولت تركيا على الجزء الأكبر منها، فبقي القليل من أهلها في الدولة التركية وهاجر آخرون إلى حلب والقامشلي. أما هو وعائلته، فقد أتوا إلى لبنان عمالاً وباحثين عن مأوى، فسكنوا منطقة المصيطبة قبل أن يستقروا في هذا الحي الذي ازدادت هويته «كردية» مع مرور الوقت رغم أن لفظة «الأكراد» سبقت مجيئهم إلى لبنان.
يشدّد عماد على أنه من أصول عربية، وخصوصاً في ما يتعلق باللغة، لكنهم أخذوا من الأشوريين «اللكنة» وحرفَي القاف والجيم (الجاف كما يلفظها هو)، فأكثروا من استعمالهما في لغتهم. هاجروا إلى لبنان في العصر الحديث طلباً للحماية والعمل، فعملوا في المهن البسيطة كبائعي خُضَر وعتّالين. مع تعاقب الأجيال، تحوّل جزء منهم إلى التجارة، وخصوصاً الخشب، كما يؤكد عماد مضيفاً تجارة السيارات من ألمانيا بالتحديد.
يعترف عماد بأن الأكراد معروفون بما سمّاه «التكتل على أنفسهم» وهو شكل من أشكال اللُحمة، مبرّراً هذه الصورة النمطية عنهم بقلّة عددهم ونظرة المحيط إليهم. النظرة التي تغيّرت برأيه بعد الأحداث السياسية الأخيرة في لبنان، وخصوصاً أن جزءاً كبيراً من الأكراد أيّدوا «تيار المستقبل» وهو الفريق الذي لا يحبذه سكان المناطق الملاصقة.
strong>الأكراد تسمية اعتباطية
الشيخ أحمد العمري خطيب المسجد في الحي، أكد صحة ما قاله عماد في ما يتعلّق بالشق التاريخي، لكن رأيه في الجوانب السياسية والاجتماعية كان مختلفاً. يشدد على أن الحي مسالم جداً ومتعايش مع الأحياء القريبة «والتاريخ يشهد بذلك». ويلفت النظر إلى أن لفظة الأكراد غير صحيحة تماماً ولا تشمل جميع سكان الحي، فمعظمهم من القبائل العربية التي عاشت على الحدود السورية ــ التركية، معتبراً إياها تسمية اعتباطية «لكنهم اعتادوها لكون ظروف نزوحهم كانت تحمل أبعاداً اقتصادية واجتماعية فلم يهتموا بالتسميات».
ويؤكد الشيخ العمري أن أوّل منزل للأكراد في هذا الشارع كان لعمّه الحاج درويش العمري عام 1960، وتلاه والده الحاج عمر العمري، مسمياً العائلات الكبرى في الحي. يبتسم بفخر حين يخبرنا أن عائلته هي أكبرها، ومن أشد المسهمين في عملية تطوير المنشآت داخل الشارع ابتداءً بنادي الناصر الرياضي الذي أسّس عام 1979 وانتهاءً بالمدرسة التي يديرها حالياً. ويستفيض في تحديد مساحة الأرض التي تقوم عليها المدرسة الآن (2400 م) التي اضطروا إلى شرائها بعدما كثر عدد المصلين وساعدتهم على ذلك مجموعة من المؤسسات الخيرية.
من جهة أخرى، يلفت العمري إلى أن اللبنانيين كانوا دوماً معجبين بصدق الأكراد وتفانيهم في عملهم، ما أسهم في تطورهم، لكنه لا ينفي حصول بعض الإشكالات بين شبان هنا وهناك، يحاولون حلها دائماً بالطرق العشائرية (وهي الطريقة الأفضل باعتقاده).
تعدّد الهويات
عليا (38 عاماً) تملك قصة مغايرة، فهي ولدت وعاشت في بيروت، لكنها تؤكد أيضاً أن أجدادها كانوا من الأتراك العرب. تستنجد بذاكرتها قليلاً لتستعيد ما كانت أمها تخبرها إياه عن تاريخ العائلة. «كنا في منطقة الكولا في البداية». تضحك حين تصف البيوت الأولى التي سكنوها «كانت من التنك، تُفصَل الغرف داخلها بالشراشف البيضاء، حتى تتسع لخمس عائلات أو أكثر». الانتقال إلى الضاحية وإلى هذا الشارع بالذات يعدّ نقلةً نوعية لها ولعائلتها، فقد عملوا في تجارة الخُضَر وتحسنت ظروف حياتهم، بسبب حسن الجيرة والألفة بعد خمسين عاماً من المعاناة عاشها والدها وأمها. «صار من الأكراد اليوم أناس متعلمون ومثقفون لهم دور فاعل في الحياة اللبنانية».
تلفت عليا النظر إلى أن الشارع منقسم إلى مجموعات من الداخل، رغم انغلاقه شبه الكلي على البيئة المحيطة، ففي داخله أتراك عرب مثلها، وآخرون أكراد الهوية تخاف الحديث عنهم لأنهم متعصبون ولا يتكلمون إلا لغتهم الكردية، ولا تنسى أن توضح أن اللغة التي استعملتها لتخاطب ابنها عربية «لكن بحروف سريعة».
عليا وزوجها لبنانيان منذ 13 عاماً فقط. كانت أوراقهما الثبوتية تحمل عبارة «بطاقة قيد الدرس». تقول بصوت منخفض: «الحريري جنّسنا» وتشير بيدها إلى صورة الرئيس رفيق الحريري على الحائط. رغم هذا، تعتبر عليا نفسها غير معنية بالصراع السياسي اللبناني، ليس لأنها كردية، بل لأنها شخصياً لا تحب السياسة!
أحمد (28 عاماً) لا يوافق على هذا الرأي، ويصرّ على حق الأكراد بالمشاركة في الحياة السياسية اللبنانية، وخصوصاً أن أغلب سكان هذا الحي يحملون الجنسية اللبنانية ويتابعون الوضع السياسي بشغفٍ لا يقل عن شغف «اللبنانيين الأصليين» أنفسهم. «حتى لو كنا مع تيار المستقبل عليهم تقبّلنا»، مستغرباً ومتناسياً في الوقت نفسه أن الأكراد تحوّلوا إلى ما يشبه «الغيتو» بسبب قرار العزلة الذي اتخذه بعضهم على عاتقه.
غياب القوى الأمنية
غير أن مشكلة الهوية ليست ما يشغل بال الأهالي اليوم. يلفت أبو محمد (50 عاماً)، أحد سكان الحي القدامى، الذي ينحدر من أصول كردية، إلى ظاهرة «الزعران» التي تنتشر بلا محاسبة. «حتى القوى الأمنية ترفض الاهتمام بالشأن الأمني داخل المنطقة، كي لا يثير الأمر حفيظة «حزب الله» الذي يمتنع بدوره عن التدخل في شؤون الشارع الأمنية لأنها خارج نطاق مسؤوليته، والشارع أغلبه من السنّة».
لا أحد يلتفت إلى الأمن في شارع الأكراد إذاً، وأولاد أبو محمد وغيرهم من رافضي ظاهرة الفوضى لا يمكنهم أن يتدخلوا أو يقيموا سلطة أمنية «سيكون مصيرهم الموت أو المستشفيات». يشدد ويتلو قصة الإشكال الكبير الذي وقع منذ أيام بين شباب من الحي الكردي وشبّان أتوا من مخيم الفلسطينيين المحاذي على خلفية أعمال «تلطيش وزعرنة»، كما يصفها الرجل العتيق في الحي، فألقوا قنبلة صوتية وحدث عراك دامٍ بين الشبّان. «تمنيت أن يموت أحد هؤلاء الزعران حتى ينقصوا واحداً» يقول غاضباً ولا يرحل قبل أن يؤكد علينا أن نذكر أن عدد الجرحى كان كبيراً جداً.
فاطمة (55 عاماً) أم لثلاثة شبّان، تبدي رغبة شديدة في الحديث عن مشاكل الحي، لعل أحداً ما يسمع استغاثتها. تردد حادثة الإشكال نفسه لكن بتسلسل أحداث مختلف هذه المرة، والخلاصة: «لا أحد يضمن لنا سلامتنا». تذكر حوادث أكثر أهمية، يقوم بها الشبّان بتدخين الحشيشة علناً في الحي، ويتعرضون لكلّ من يأتي أو يخرج من بوابته. لا تعلم فاطمة على من تلقي المسؤولية، فالمخفر القريب رفض أن يأتي إلى منطقة خاضعة لنفوذ «حزب الله»، والحزب نفسه لا يتدخل في مشاكل الأكراد، لكنها تريد إجابة واضحة عن سؤال واحد: من يؤمّن أمن الناس في شارع الأكراد؟.
تجدر الإشارة إلى أن القوى الأمنية حضرت أكثر من مرة إلى الشارع لكنها لم تتدخل في حلّ الإشكالات التي تقع بين الشبّان، ولا في حلّ الإشكالات الأخرى، بل يقتصر حضورها على الإشراف ومراقبة عمليات البناء إن كانت تجري بصورة شرعية، وكأن «لجم» الشبّان أمر مستحيل بالنسبة إليها!


محطات سياسية
«ستون عاماً مرّت من دون أن تطلَق رصاصة واحدة في هذا الشارع». هكذا يعرِّف الشيخ أحمد العمري عن منطقته. أثناء الحرب الأهلية عانوا كأغلبية الموجودين على الأراضي اللبنانية، فتألموا من بشاعة الحرب وطاردهم التهجير من مكان إلى مكان.
المميّز في هذا الشارع كما يقول أهله أنه لم يكن طرفاً في نزاع داخلي، بل على العكس أدى دوراً إصلاحياً، وخصوصاً أثناء حرب المخيمات، حين حوصر الحي بين نيران المقاتلين الفلسطينين من جهة، ومقاتلي «أمل» من جهة أخرى. الشيخ العمري كشف عن لقاءات متكرّرة حدثت آنذاك مع الرئيس نبيه بري، ومع أطراف فلسطينية لمحاولة الإصلاح والتوفيق بين الطرفين. كما يذكر قولاً للسيد محمد حسين فضل الله بالتحديد يقول فيه إن أيّ اعتداء على حي الأكراد هو بمثابة اعتداء عليه شخصياً.
اليوم وقد تخلى آلاف الأكراد عن «بطاقة قيد الدرس» وحصلوا على الهوية اللبنانية «بفضل الرئيس الحريري» أمست علاقة الأكراد اللبنانيين بالوضع السياسي أكثر دقة. الجماعة الإسلامية تتهم جمعية المشاريع بمحاولات العبث في وضع الأكراد، وجمعية المشاريع تتهم الجماعة باستعداء المحيط الحيوي لمكان سكنهم. في السياسة، أغلب الأكراد ردّدوا جملة واحدة، يردّدها الشعب اللبناني كلّه، ركّزوا فيها على ضرورة الحوار وإيجاد حل. رغم إحكام أبوابه جيداً، الأزمة السياسية اقتحمت حي الأكراد هو الآخر!