أنطوان سعدلم يكن قائد الجيش العماد ميشال سليمان يهدف إلى المناورة أو خلط الأوراق أو التحايل على السياسيين اللبنانيين والمرجعيات الدولية التي تقف وراءهم، لحملهم على التحرك أو اتخاذ مواقف جديدة مؤيدة له، وفق ما ظنه بعض رجال السياسة، عندما كشف عن نيته في طلب التقاعد قبل ثلاثة أشهر، مستفيداً من فرصه السنوية المتراكمة. إذ بحسب مصادر مطلعة قريبة منه، لم يكن موقفه هذا معداً للنشر أو لاستحداث الخضة التي أثارها، لأنه أتى في سياق لقاء خاص مع صحافي لا في إطار مقابلة صحافية في المعنى المتعارف عليه للكلمة.
ذلك أن كلام العماد سليمان لم يكن منفصلاً عن واقع المؤسسة العسكرية، بل جاء في سياق تبلور استياء عام لدى كبار القادة في الجيش اللبناني من أداء الطبقة السياسية التي حاولت إقحام المؤسسة العسكرية في تجاذباتها، بعدما كادت تنهكها في التوترات الأمنية والسياسية المتتالية، والاستنفارات الناتجة منها في صفوف الوحدات القتالية. فهذه الأخيرة لم تنل القسط الذي تستحقه من الراحة والتقدير بعد حرب نهر البارد الدامية، ولا يعوزها التوتر المستمر في أكثر من نقطة من لبنان.
فمنذ نحو شهر، أعرب بعض الضباط القادة من الذين ييمثّلون عصب المؤسسة العسكرية ويتولون إدارة مفاصلها الأساسية، ويرون أنفسهم من المسؤولين عن الحفاظ على الإرث العسكري، وعن نقله إلى الأجيال الصاعدة، عن رفضهم للسجالات المتعلقة بوضع المؤسسة العسكرية بعد إحالة قائد الجيش على التقاعد في تشرين الثاني المقبل. وسجلوا قلقهم من التباينات التي ظهرت بين السياسيين بشأن هذا الموضوع، وجرى التداول بأفكار للتعبير عن القلق والاستياء، مثل التقدم باستقالات جماعية، باعتبار أن الجيش هو الصامت الأكبر ولا يجوز له ولضباطه الكبار الدخول في سجالات مع أحد. في هذه الخانة يمكن إدراج كلام قائد الجيش الذي ساءه أيضاً كلام لأحد الدبلوماسيين، مفاده أنه لن تكون هناك مشكلة لترتيب مسألة نهاية خدمته، وأن ثمة دائماً طريقة لمعالجتها وتمديدها من خلال الحكومة.
وبحسب المصدر القريب من قائد الجيش، فإن الهم الأول لهذا الأخير، إضافة إلى الاستقرار السياسي والأمني في البلاد، هو الحفاظ على وحدة المؤسسة العسكرية من خلال وحدة الجسم الذي يتولى تجسيد مفهوم الإمرة والقيادة. وهذا الأمر لا يتحقق بسهولة، بل يتطلّب الكثير من الحكمة والدراية من أجل التوفيق الصعب بين التأثيرات المتعددة والهدف الواحد، ولعل هذا أكثر ما برع فيه العماد سليمان، في ظل التعاون الكامل لكبار ضباط الجيش معه، والخط الأحمر الذي لم يتجاوزه السياسيون، حتى الآن على الأقل. فمثلاً سنة 1976 عندما تفكك الجيش، وسنة 1988 لما تفككت قيادته، قائمتان للاعتبار أمام الجميع، وقائد الجيش ليس في وارد القبول بانفراط عقد الجيش ولا المضي في مشروع يؤدي إلى انقسام المجلس العسكري، كما يمكن أن يحصل إذا قبل بانتخابه بنصاب النصف الزائد واحداً في مجلس النواب، على ما ينصحه الكثيرون في لبنان وخارجه.
غير أن إصرار قائد الجيش على التقاعد في الواحد والعشرين من آب المقبل، لا يعني أنه سوف يتهرب من واجب إكمال خدمته حتى نهاية موعدها الرسمي في الواحد والعشرين من تشرين الثاني، في حال اقتضت ذلك مصلحة الوطن والمؤسسة العسكرية التي أمضى فيها معظم حياته. وما موقفه من التقاعد المبكر بالأساس بغريب عن هذين الاعتبارين المشار إليهما.
في أية حال، أثار كلام التقاعد في آب ديناميكية سياسية مفيدة، لا سيما في جانب المعارضة التي عبر عدد من أركانها الأساسيين، من بينهم رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون والوزير السابق سليمان فرنجية، عن دعمهم لترشيح قائد الجيش بطريقة مختلفة جذرياً عن السابق، علماً بأن هؤلاء الثلاثة هم أول من عارضوا بعيداً من الأضواء هذا الانتخاب، وسعوا إلى ربطه بسلة المطالب المعروفة من أجل عرقلته وفتح باب الحوار على أسماء مرشحين آخرين.
قد تكون وراء التبديل الحاصل، إضافة إلى الغداء في عين التينة يوم الأحد الماضي الذي تخلله، على ما تذكر المصادر، حوار عميق وجدي بين رئيس المجلس النيابي وقائد الجيش، جملة اعتبارات ليس أقلها شعور المعارضة بأن ليس بإمكانها أن تربح كل شيء. فالمهل الفاصلة عن انتهاء خدمة العماد سليمان، وموعد إجراء الانتخابات النيابية، والاستحقاقات المعيشية والاجتماعية الهائلة، ربما أقنعت المعارضة بالاكتفاء بالانتصار الذي حققته في نهاية عهد الرئيس إميل لحود، المتمثل بإلزام الموالاة بالتوافق معها على مرشح رئاسي لا يكون من الفريق الحاكم، ولطالما أعلنت أو أوحت بأن ذلك يكفيها.