إبراهيم الأمينعندما قام فؤاد بطرس بوساطته الشهيرة، قابل الرئيس السوري مرات عدة. تحفظ كثيراً عما دار في المناقشات، لكنه قال إنه ذكر أمام الرئيس الشاب جملة عدّها مفتاحاً للتغيير والحل: لتنجح، عليك تنفيذ انقلاب على والدك. هل تقدر على ذلك؟
لم يكن كثيرون يتوقّعون أن ينجح بشار الأسد في البقاء رئيساً لسوريا أكثر من عام أو عامين، في سوريا، كما في لبنان وعواصم أخرى. تحدثوا كثيراً في المجالس المغلقة عن التجربة الهشة وعن الخبرة المحدودة وعن الفارق الهائل بينه وبين أبيه. ثم أكثروا من تعداد المشكلات التي تواجه هذه الدولة، وعن صعوبة إحداث تغيير جدي من دون انقلاب كامل. الكل أفاض في توقع انهيار تدريجي، إن لم يكن سريعاً، وما إن يرفع الغرب راية التغيير في سوريا، حتى تكون نهاية بشار. وعندما وصلت الدبابات الأميركية إلى مشارف بغداد، كان خصوم بشار يعدّون العدّة لاحتلال القصر والمقارّ.
ها قد مرّت سنوات ثمان، والرجل يبدو قابضاً على الأمور. التغيير لم يحصل كما أراده هو، أو كما يريده السوريون، لكن بالتأكيد لم تحصل التغييرات التي يريدها الغرب أو عرب أميركا. حتى خصوم الرجل الداخليون، تفاوتت مواقفهم، بين فكرة فترة السماح التي سرعان ما تخلّوا عنها، والاعتراض الكامل لأنّه ابن أبيه.
الآن، وبعد السنوات التي مرت، يمكن ملاحظة مئات الكوادر الفاعلين في إدارات الدولة ومؤسساتها، من أبناء جيله. عملية التسلم والتسليم تجري ببطء. لكنها تحصل، وبعد سنوات قليلة، سوف يكون طاقم الحكم في كل مراكز العمل الرسمية من الجيل الذي تعرف إليه بشار رئيساً، لا ابن رئيس ولا مراقباً.
والسؤال عمّا يمكن توقعه في الفترة المقبلة، يشبه في تعقيده السؤال عمّا يمكن توقعه للمنطقة برمّتها. لكن الأكيد أن نمط الاعتراض على السياسات العامة لحكومة بشار الأسد، يتصل بأمور موجودة في كل دول المنطقة، حيث النفوذ القوي لأجهزة الأمن، وحيث الأفضلية لرجالات الحزب الحاكم في المناصب الأساسية، وحيث البيروقراطية في الإدارات العامة، وحيث الفساد يتحكم ببعض المفاصل، إلى جانب المشكلات الناجمة عن الأزمة الاقتصادية. لكن الصورة هي نفسها في مصر المسالمة، والعراق المحرر، وحتى السعودية الغنية بالمال وبسماحة الإسلام وعطفه. إلا أن ذلك لا يلغي النقاش القائم في هذا البلد الذي يجيد أهله أن يقيموا حداً بين موقفهم من أزمة المنطقة، ومشاكلهم الداخلية. وثمة سؤال يحتاج إلى تفسير من خارج سوريا أو من خصومها، عن سبب تعاظم مكانة الرئيس الشاب عند شعبه.
في هذه الفترة، تعرّض بشّار لاختبارات عدّة. واجه أزمة داخلية مع فريق من الحرس القديم، أولئك الذين رفضوا تولّيه المسؤولية، وعملوا منذ ما قبل وصوله إلى منع الأمر. وكان واضحاً أن مشكلة عبد الحليم خدام مع الرجل بدأت قبل وقت بعيد. وإذا كان هناك من يفترض أنها قامت لمجرد وصول بشار، فإن وقائع كثيرة تظهر العكس. لقد كلّف الأسد الأب نجليه وآخرين متابعة أمور كثيرة داخل الدولة، وفي ما يخص ملف لبنان. وكان واضحاً، للّبنانيين على الأقل، الاختلاف بين بشار وخدام على أمور كثيرة. لم يكن الابن بالتأكيد مخالفاً لتوجهات والده، وما كان اتخذ مساراً متناقضاً مع مسار خدام لو لم يكن الأسد الأب راضياً. ربما كانت هذه الطريقة وسيلة تعبير عن اختلافه مع رفاق دربه، مثل خدام وحكمت الشهابي وآخرين، في طريقة إدارة ملف لبنان.
كذلك تعرّض بشار لاختبار العلاقة القاسية مع المحيط. كان كثيرون من الزعماء العرب يريدون منه الولاء مقابل الدعم. حدّثه حسني مبارك وولي العهد السعودي (آنذاك) عبد الله وقادة آخرون من الخليج ومن المغرب العربي عن علاقتهم بوالده، قالوا له أشياء كثيرة تصب عملياً في خانة: تعالَ وانضمّ إلينا، نحمِك ونوفر لك الشرعية. وكان عليه اختبار الموقف لناحية تثبيت سياسة والده في ما خص الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وكان عليه تأكيد موقف بلاده غير الحيادي من القضية الفلسطينية، وكان عليه إقناع العرب بإمكان التغيير دون الانفجار.
ثم برز أمامه مسلسل الاختبارات المفتوحة من الغرب كله، الولايات المتحدة تتحدث عن فرصة له لتغيير ما كان سائداً، وحمل الأوروبيون الكلام نفسه. وبينما كان الحديث العلني يدور حول الديموقراطية وحقوق الإنسان، كان جوهر المطلوب يتصل بلبنان والصراع مع إسرائيل ودعم سوريا للمقاومة في لبنان وفلسطين. وكلما ثبّت هو علاقته بهذا المحور، أُعطي علامات سلبية من الغرب وجماعته.
ثم جاءه اختبار لبنان الأقسى، ليست وراثة ما سبق من تجربة مليئة بالأسئلة والأخطاء والأحلام والأتعاب هي الأصعب، بل إدارة ما بقي من سيطرة بدت غير متماسكة يوم انفجرت المشكلة داخل الفريق اللبناني الحليف لسوريا. سرعان ما ظهر أن رفيق الحريري ووليد جنبلاط لا يختلفان مع استراتيجية الكنيسة بقيادة البطريرك الماروني نصر الله صفير في رسم إطار آخر للعلاقات اللبنانية ــ السورية. جرى تحميل الأسد الابن مسؤولية كل ما سبق. ليس هو أو نظامه مُعفىً من المراجعة أو المسؤولية عما جرى، لكن الأمر لم يكن يستهدف مراجعة يمكن أن تنتج حلولاً من النوع القابل للحياة. كان على بشار أن يدفع الثمن مضاعفاً، أن يدفع فاتورة مستحقة على غيره، وفاتورة كدفع مسبق عما يريد أن يقوم به في الوقت اللاحق.
وأكثر من كل هذه المهام، كان على بشار التعامل بواقعية مع مجريات الصراع مع إسرائيل. تعرّف قبل وصوله إلى القصر إلى واقع جيش بلاده، وتعرّف في هذه الأثناء إلى تجربة المقاومة في لبنان، وكان عليه المباشرة بخطة عمل لا تزال مفتوحة حتى الآن. وكانت للأسد الشاب تجربة خاصة يوم حرب تموز التي جرت في صيف عام 2006. ثمّة الكثير من الكلام الذي لم يُبَح به حتّى اليوم، وثمّة دورٌ لهذا الرجل الذي أقنعه حسن نصر الله بأنّ الوضع لا يتطلّب منه الضغط على الزناد!
غداً: عندما يصبح التلفزيون حليفاً لا عدوّاً