ساندي مارونالمبنى كلّه «مهجّرون تقاطروا إليه من كل المناطق»، يذكره محمد بكلّ تفاصيله: الغرف، والأثاث، والمكتبة، والخزائن، والأسرّة... والسكّان، ما زالت صور الجيران محفورة في ذاكرته، لم يقابل «مثلهم في أي منزل آخر، هم مهجّرون من مناطق عدّة سكنوا في بيوت ليست لهم»، هربوا من منازلهم ليسكنوا في البناية المذكورة، واعدين أنفسهم بالعودة إلى قراهم. لاجئين كانوا، إلى أجل غير مسمّى، وعائدين افتراضيين دائمين إلى جذورهم.
ذلك البيت كان بالنسبة إلى محمّد وأسرته جدراناًً مؤقّتة لم يسعَوا إلى حمايتها والمحافظة عليها، كما يحمي أصحاب البيوت منازلهم الدافئة «كنّا نكتب ونخربش على الجدران، ولم نكن نصلح الزجاج المكسور، بل كنّا نستبدله بالخشب، إذ إنّه أقلّ كلفةً، ولأنّ وجودنا في بيت الرملة البيضاء مؤقّت». يصف محمّد منطقة الرملة البيضاء بالبورجوازية التي تحوّلت حينها إلى شعبية تعجّ بالسكّان والقادمين من كلّ حدبٍ وصوب، أمّا الآن «فقد عادت مجدّداً إلى بورجوازيتها المعهودة» بحسب محمّد.
«البورة» يقصّ عليك حكايتها بشوقٍ يضيء عينيه: «أذكرها جيّداً، خلف البناية حيث كنّا نلعب الفوتبول مع الأولاد. كنّا نتبارى، والرابح يحصل على مشروب غازي، أمّا أنا فتستهويني كرة القدم».
بعد سنوات تحوّلت تلك الجدران الإسمنتية ملجأً عاطفياً لا يزال يحنّ إليه حتّى اليوم، «أحياناً عندما أمرّ بجانب بنايتنا القديمة، تدمع عيناي. كان هذا المنزل عالمي، المليء بالأصدقاء وبأناس كثيرين، من كلّ المناطق والمذاهب والأديان. مزيج متشعّب لم أشهد مثله في أي بيت آخر من البيوت التي عشنا فيها. ما زلنا حتّى اليوم على اتّصال مع بعض الجيران».
عام 1993، طُردت العائلة من المنزل بواسطة الدرك، كما أُخرج كلّ سكّان البناء المؤقّتين، لأنّ أصحابه «النافذين» أرادوا استرداده، ثم إنّ عملية الشراء لم تكن مبنيةً على عقد قانوني، ما جعل المنزل يبقى مسجّلاً باسم أصحابه الأصليين، لا باسم سكّانه، فبدأت بذلك رحلة تنقّل الشاب الدائم بين المنازل، وكان الانتقال إلى الضاحية الجنوبية من بيروت. «تنقلنا بين سبعة منازل، استأجرنا كلاً منها لمدّة أقصاها ثلاث سنوات، كنّا نغادر بعدها البيت للانتقال إلى آخر». لم يمثّل أي من تلك المساكن بالنسبة لمحمّد عالماً، ولم يُحَط فيها بالأصدقاء كما في منزل الرملة البيضاء، يقول «كنت أنزل لألعب الفوتبول وأعود فوراً إلى المنزل بعد انتهاء الماتش، لم أكن أقضي أي وقتٍ إضافي مع الأولاد».
انتماء محمد الأقوى والأعمق كان لمنزل الرملة البيضاء، وكأنّ التغيير الدائم للبيت الّذي تسكنه الأسرة على مرّ السنين مثّل له تشرّداً. وانسلاخه عن منزله الأوّل (الّذي يرى فيه قريته) شبيه بانسلاخ والده عن قريته في الجنوب بسبب الاحتلال الإسرائيلي.
لعلّ هذا التشرّد الدائم جعل من الشاب العشريني بوهيمياً، أو رجلاً يخاف الاستقرار في أوجه عديدةً من حياته: فهو لا يمكث طويلاً بصحبة فتاةٍ يعشقها، رغم ما يكنّ لها من مشاعر، فيبحث عن الذرائع ليقطع صلته بها ويفتّش عن فتاةٍ أخرى. يغيّر دوماً عمله، ويسعى للعمل في ميادين جديدة.
انتقلت أسرة محمد العام الماضي إلى منزل جديد اشتراه الوالد، بسبب إصرار الوالدة على الكفّ عن التنقّل الدائم وعلى ضرورة المكوث في بيتٍ «ملك»، هنا يشعر محمّد وأسرته بأن «البيت بيتهم» وانتماء محمّد إليه كبير، إلا أنّه لا يبلغ درجة انتمائه وتعلّقه بمنزل الرملة البيضاء، الّذي يمثّل العالم والذاكرة والطفولة.