strong>راجانا حميةحمل نجم المنتخب المصري لكرة القدم محمّد أبو تريكة قضيّة «أطفال غزّة» معه إلى أرض الملعب، وفي لحظة الفوز، رفع قميصه إلى الأعلى وكشف عن «تعاطفٍ» مع غزّة ترجمه على «الفانيلة» البيضاء باللغتين العربيّة والإنكليزيّة، غير آبهٍ بقوانين اللعب، كما لم يأبه «نظيره» الغاني جون فنستيل في كأس العالم الأخيرة حين أبرز العلم الإسرائيلي عقب إحراز فريقه هدفاً في إحدى مباريات المونديال في ألمانيا عام 2006، تعبيراً عن حبّه لإسرائيل التي يلعب في أحد أنديتها.
ليس تجاوزاً فرديّاً لأبو تريكة وفنستيل، فالشعارات السياسيّة نسفت «الخط الأحمر»، ووصلت عالم الأزياء، إلى أن باتت «ماركة»...لا بدّ منها.
إذاً، انتشرت القمصان المسيّسة، فارضة حضورها بقوّة تخطّت هالة الزعيم وصورة المجازر والحروب وسريان الشائعات السياسيّة والطائفيّة، فباتت الحدث الأبرز في كلّ لحظة يشعر فيها الشباب بحاجتهم إلى التغيير أو التضامن أو التعبير عن الرأي حيال أيّ قضيّة مطروحة. إلا أن الدافع لم يعد، في بعض الأحيان، «التزام قضيّة»، بقدر ما تحوّل إلى البحث عمّا يراعي الـ«style» الجديد و«لقمة العيش»، بحيث باتت طباعة «القمصان المسيّسة» مورد رزق للكثيرين من «العاطلين عن العمل». دعم تجارتهم بطل الحارة اليساريّة الذي لم يعد تعبيره عن رأيه يمثّل حنيناً، بل تحول إلى مجرّد «تقليعة ديكور»، فالقميص الذي كان في الماضي مثالًا لتمرّد الشباب، تحوّل اليوم إلى مجرّد «ماركة» أو «براند»...
... وفي لبنان، غزت الشعارات السياسيّة صدور الشباب والفتيان والحزبيين، وبعض المثقّفين الذين يناصرون عدداً من القضايا، فلسطينيةً كانت أم لبنانيّة. غير أنّ هذا الغزو لم يكن جديداً في ولادته، فقد عرف هذا «اللبنان» ظاهرة القمصان المسيّسة منذ حرب عام 1975، أي حتى قبل ازدهارها في بريطانيا عام 1979 على يد المصممة كاثرين هامنت التي حاولت على مرّ السنوات أن تنشر بعضاً من الوعي في ما يخصّ الحروب وتزوير الحملات الانتخابيّة، ولا تزال حتى الآن تواكب أحداث العالم وسياسيّيه بقمصانها. من الشعارات التي رفعتها هامنت «save the world, education not missile.
أمّا في بيروت، التي كانت أول معاقل تلك الظاهرة مع بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة، فقد رفع صانعو القمصان شعارات سياسيّة كثيرة، وصلت في كثير من الأحيان إلى الطائفيّة والمذهبيّة...حسب «الطلبيّة».
يتذكّر أحد روّاد صناعة القمصان المسيّسة أحمد فتح الله بدايته في مجال شغله زهاء ثلاثين عاماً، فكان أوّل قميص يدخل به عالم الشعارات السياسيّة هو «شلّة التعتير»، ليبدأ بعده الدرب الذي انتهى مؤخّراً مع بضعة قمصان تؤرّخ للمراحل التي مرّ بها لبنان منذ الحرب الأهلية إلى الآن.
صدفة اكتشف فتح الله المهنة التي بدأت مع محالّ الألبسة الرياضيّة، ويشير إلى أنّ «الطباعة على القمصان أتت بها السيّدة جلخ من فرنسا منذ ستّين عاماً ونقلها أصحاب محالّ الألبسة، كهواية، إلى أن تحولّت مع بداية الحرب إلى مهنة لا بدّ منها». فمع تلك البداية، نسي أصحاب المحال شعارات «مدام جلخ» وباشروا بصناعة قمصان المقاتلين والحزبيين والمتظاهرين والصحافيين المحليين والعالميين الذين احتضنهم لبنان طوال 15 عاماً من الحرب. ويذكر فتح الله أنّ أكثر الشعارات كانت للثوّرة من «ديمومة الثورة» لحركة فتح الفلسطينيّة، مروراً بشعارات المرابطون والقوّات اللبنانية...وفي اجتياح عام 1982، انقلبت المعايير قليلاً، إذ بدأت حركة المقاومة وبدأت معها سلسلة جديدة من الشعارات، لعلّ أبرزها تلك المندّدة بالمجازر الصهيونيّة ومنها « I Survived Operation Peace for galilee»، وظهرت معها أيضاً بعض الصور التي لا تزال حاضرة إلى الآن كـ«حنظلة ناجي العلي وتشي غيفارا».
هكذا كانت البداية...واستمرّت الشعارات لكنها أفرغت من معناها وأصبحت ممجوجة ومسطّحة، إذ عمد السوق إلى استيعاب الثورة في قالب ترويجي لإدخالها ضمن دوامة المجتمع الرأسمالي. ولعلّ الدليل الأبرز على النمط الجديد قمصان «ما بعد عام 2005» التي انقسمت شعاراتها وألوانها بانقسام المجتمع ما بين موالٍ ومعارض. من جهة أخرى، حتى مستهلكو هذه القمصان، ما عادوا «يعتنقون» الثورة بقدر ما أصبحوا «يلبسونها». ولكن لا بدّ من الاعتراف ببعض الاستثناءات والمبادرات الفرديّة التي تحاول الخروج من المجتمع الرأسمالي في صناعتها، حيث لا يزال البعض يبحث عن الهويّة والقضيّة... فهل من يعيد الشعارات من مقام الكسوة إلى اعتناق حقيقي للقضية؟