أنطوان سعدكما في سائر قضاياهم، يتصرف اللبنانيون، على وجه العموم، في قضية توطين اللاجئين الفلسطينيين، كمتفرجين يأملون، لا بل يتوقعون، من الأسرة الدولية أن تهب لمساعدتهم على تسوية هذه المشكلة في الشكل المناسب لهم. فيما هم يقتصر دورهم على استغلال الموضوع، كمادة إعلامية، لتسجيل نقاط على الخصم، بغض النظر عن المعطيات العلمية والسياسية الموضوعية.
وكما في كل المسائل السياسية التي جرى النقاش بشأنها منذ انتهاء حرب تموز حتى اليوم، مثل تفسير الدستور عن نصاب جلسة الانتخاب، والموقف من شرعية الحكومة، ومجلس النواب، والشروط لانتخاب المرشح التوافقي العماد ميشال سليمان وغيرها من المسائل، ينقسم النادي السياسي بشأن موضوع التوطين على الشكل التالي: قوى الثامن من آذار ترى أن ثمة مؤامرة دولية تشارك فيها الأكثرية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وقوى الرابع عشر من آذار تجهد للتأكيد أن لا نية للمجتمع الدولي، وفي مقدمه الولايات المتحدة، في هذا الاتجاه. فيما الحقيقة هي مزيج من الأمرين معاً: ليس من حلول متوافرة أسهل للمجتمع الدولي من توطين اللاجئين الفلسطينيين حيث هم، من أجل طي هذه الصفحة المأساوية نهائياً، وليس كل اللبنانيين يرفضون بالقدر نفسه هذا الحل، ولكن الصحيح أيضاً أن لا جهد جدياً يبذل من أي فريق لتقديم حلول بديلة، ولا قدرة لأي طرف لبناني، مهما قوي نفوذه داخل النظام، أن يجعل التوطين ممكناً قانوناً.
وفي هذا الإطار، يؤكد مصدر مطلع ومتابع عن كثب للملف الفلسطيني في لبنان، أن لا مجال على الإطلاق لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في المديين المنظور والمتوسط. فعلى المستوى الوطني الأمر غير ممكن، لأن الدستور واضح، وقرار هيئة الحوار الوطني قاطع، والرأي العام اللبناني مجمع على رفضه. حتى الجهة المتهمة بأنها تعمل له، تفقد كل شرعية شعبية على مستوى الرأي العام الذي تمثله، إذا هي تقاعست أو أخطأت في هذا المجال، لا سيما في زمن صعود الأصولية الدينية الشديدة الحساسية حيال هذه المسألة بالذات.
على المستوى العربي، ثمة تفهم شامل لوضع لبنان وخصوصية تركيبته ودقتها. وقد عبر عنه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة دمشق، عندما رفض التوطين، مضيفاً: «خصوصاً في لبنان». أما على المستوى الدولي، فثمة تبدل واضح يظهر من خلال خطة ميغيل أنخل موراتينوس التي تستثني لبنان، ومن خلال المواقف التي عبّر عنها مسؤولون أوروبيون عديدون، من بينهم رئيس الحكومة الإيطالية رومانو برودي، لقادة لبنانيين عن أنهم أخذوا قراراً بأن يعملوا على تحييد لبنان من عملية توطين اللاجئين الفلسطينيين. كما أن المسؤولين الأميركيين، وكان آخرهم دايفيد ولش، أخذوا مواقف واضحة في هذا الاتجاه، بعدما كانت المفاوضات الدائرة بين إيهود باراك وياسر عرفات، برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، أقرت مبدأ الحفاظ على خصوصية لبنان، على ما يؤكد المصدر المطلع المشار إليه.
التوطين مستحيل في المديين القصير والمتوسط، ولكن ماذا على المدى الطويل؟ لا أحد في لبنان وخارجه بإمكانه التكهن بهذه المسألة المرتبطة بعوامل كثيرة التشعب، وإن كانت المعطيات حتى الآن سلبية بغياب مشروع لبناني ـــ عربي يضع آلية لتأمين الحياة الكريمة للاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون منذ ستين عاماً في ظروف مزرية، مثّلت، ولا تزال، بيئة ملائمة لكل مشاريع التفجير في لبنان، بدءاً من ثورة 1958، وصولاً إلى حرب نهر البارد في الصيف الماضي. وفي الوقت نفسه، تأخذ هذه الآلية الواقع الديموغرافي اللبناني وكثافته السكانية ومشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالاعتبار، وتعد أمكنة موقتة ولائقة للفلسطينيين، ولكن خارج الأراضي اللبنانية.
الحاجة ملحة لاستكمال ملف دبلوماسي علمي وجدي، واستراتيجية لبنانية موحدة مكشوفة، لمتابعة الوضع عربياً ودولياً، بدأت به الحكومة منذ تأليفها، ويحتاج إلى حوار صريح في ما بين اللبنانيين، وبين هؤلاء والفلسطينيين من أجل استكماله. ولعل الخطوة الأولى المنتظرة لإعادة الثقة هو مبادرة الحكومة إلى تنفيذ حكم مجلس شورى الدولة المتعلق بنزع الجنسية اللبنانية ممن لا يحق لهم بها في المرسوم الصادر في حزيران 1994، ومنهم نحو واحد وعشرين ألف فلسطيني حصلوا عليها، على رغم أن الدستور يمانع التوطين. وبحسب المصدر المتابع والمطلع، فإن ثمة اتجاهاً لتنفيذ هذا الحكم، عندما تعود الأمور إلى نصابها، وتصبح المطالبة جدية وفعلية وفاعلة بتنفيذ حكم مجلس شورى الدولة المشار إليه.
كما كشف هذا المصدر لـ«الأخبار» عن أن الأيام المقبلة سوف تشهد استئناف التعاون بين الأجهزة الرسمية اللبنانية والمسؤولين الفلسطينيين، لتسليم المطلوبين اللاجئين إلى المخيمات، وأن الوقت الفاصل مخصص لتذليل العقبات، وجعل عملية التسليم هادئة قدر الإمكان، لأن وضع بعض المخيمات، وفي مقدمها البداوي، شديد الحساسية.