إبراهيم الأمينليس في سوريا رجل واحد لا يعرف أسماء السياسيين في لبنان ومدنه وأحياء بيروت بشطريها، إضافة إلى القرى في جميع الأقضية. وفي ذاكرة السوريين الحارة منها والباردة الكثير من الحكايات عن الناس والأمكنة في لبنان. يكفي أن تجلس مع العمال الذين فرّوا بعد خروج الجيش السوري، حتى يشرحوا لك كيف كان دورهم في بناء وسط بيروت، والمطار والمدينة الرياضية، وفتح الطرقات الطويلة وورش المباني المنتشرة في كل لبنان. يعرفون أصناف الخضر والفواكه وأنواع التربة والمزروعات الممكنة في مختلف مناطق لبنان. يعرفون تجار البناء على أجناسهم، وباعة الأدوات المنزلية.
كان لهؤلاء حياتهم الملتبسة. يمضون نهاراتهم منذ ساعات الفجر في الطريق إلى الأحياء الغنية. يصلونها مع قليل من الطعام الذي يمنحهم قوة العمل لساعات تتجاوز ساعات العمل العادية. يسمعون كلاماً من أنواع مختلفة. فيه التضامن، وفيه الكثير من التحقير والفوقية. وعندما يشاهدون ما أنجزوه من أبنية فخمة يشعرون بالفخر، ويتحدثون في ما بينهم عن الأشكال والألوان وهم في طريق عودتهم إلى الأزقة الضيقة في ضواحي بيروت أو المنازل المهدمة التي رمّموا فيها جدراناً تدخل منها المياه إلى أرض رطبة يغطونها بطبقة من الإسنفج الرفيع وبعض الأقمشة أو الأغراض التي لا تقي من برد.
غالبية هؤلاء لا يفهمون ما الذي حصل معهم. كان المتعهّدون من بيروت وأصحاب الورش الصغيرة والمشاريع الزراعية يقصدون قراهم في شمال سوريا وجنوبها وفي ضواحي المدن، يجلبونهم بالمئات إلى بيروت. يعرضون عليهم أعمالاً من أنواع مختلفة. وفي بيروت، لم يكن هؤلاء أفضل حظاً من غيرهم، عندما يلحق بهم رجال من الاستخبارات السورية يفرضون عليهم أتاوات ويطلبون من بعضهم جمع معلومات عن الأمكنة التي يعملون فيها. بعض هؤلاء تورّط في هذه «اللعبة»، وبعضهم استقوى بها وصار يتصرف بطريقة تشبه حياته في سوريا. الصور على السيارات. قنوات التلفزيون السوري. حديث يومي عما جُمع من مال، وعن بناء يرتفع في قراهم وبين أهلهم.
فجأة، قُتل رفيق الحريري. لم تمض أسابيع قليلة حتى باشر العمال عملية فرار جماعية. كانوا أسرع من قيادة بلادهم في اتخاذ قرار الخروج من لبنان. فجأة استفاقت العنصرية اللبنانية على كل ما فيها من ضغائن. بات أنصار فريق 14 آذار يعتدون على العمال بوصفهم رجال استخبارات أو جنوداً في الجيش. تعرّضوا للانتقام حتى من آخرين هم الآن في صفوف المعارضة. في الجنوب والبقاع الشيعيين، بدا أن في لبنان من يريد تصفية حسابات مع كل الفريق الأمني والعسكري السوري الذي عمل في لبنان لعقدين وأكثر. ولم يكن قبالة هؤلاء الموتورين سوى العمال. ولم تمض أشهر قليلة على خروج الجيش السوري، حتى تعطّلت أعمال كثيرة في لبنان. ثم فُتح الباب أمام سجال من نوع آخر. لم ينتبه الغاضبون إلى أن العلاقة مع سوريا ليست عنواناً سياسياً أو أمنياً فحسب. راح القلق يكبر من التجارة عبر البلدين، واستمرت الألاعيب على هذه الحبال حتى استعادة قنوات التواصل بين المهرّبين على جانبي الحدود. قبل أن تهدأ النفوس قليلاً، وتفرض الحاجة إلى العمالة السورية نفسها على أصحاب المشاريع في لبنان.
لم يكن هناك أفضل من واقع العمل لشرح المكتوم في نفوس الجانبين. في سوريا، الذين عادوا هرباً من الاضطهاد أكثروا في الفترة الأولى الكلام السلبي عن اللبنانيين، هم أيضاً تناسوا تعبهم في بلادهم، وركّزوا على ما عانوه من استغلال أيام العمل واضطهاد سياسي ــ اجتماعي أعادته إلى أذهانهم روايات الأهل عن مراحل تعود إلى خمسين عاماً خلت، عندما كانت العمالة السورية في الكثير من البيوت اللبنانية تحصل على طريقة الرق. استعادوا مخزوناً من الغضب لم يجد متنفّساً له. لكن تجربة فرضت نفسها، يوم تهجّر عشرات الألوف من اللبنانيين إلى سوريا خلال عدوان إسرائيل في تموز الماضي. حينها، وضع الجميع ملاحظاتهم، حتى أبناء البقاع الأوسط الغربي من أنصار فريق 14 آذار، الذين اضطروا للانتقال إلى سوريا. كانوا يخشون ملاقاة عمال وأشخاص وحتى رجال استخبارات، لأنهم ظنوا أنه أوان الانتقام. وهذا لم يحصل. صحيح أن قوة الحرب وقوة الانتصار حالتا دون ذلك، وصحيح أن الانفعال تراجع كثيراً، لكن الجميع بقي على مواقفه.
في سوريا، يسألون عن تفاصيل التفاصيل، السياسيون يستعيدون أيام العزّ في العلاقات مع الجهات اللبنانية. أحد المسؤولين لديه مفكرة تحوي آلاف الطلبات الشخصية والسياسية والاقتصادية التي تخص سياسيين واقتصاديين ورجال أعمال ورجال إعلام ورجال أمن من اللبنانيين الذين تحوّل بعضهم الآن إلى خصم يدعو إلى إسقاط النظام في سوريا.
وفي سوريا أسئلة أكبر عن واقع العلاقات بين البلدين الآن: «هناك حاجات تخصّ المواطنين على طرفي الحدود، وأمور تتعلق بالتجارة المفتوحة بين البلدين، وهناك قضايا الكهرباء والماء والترانزيت، وهناك التعاون الصامت الجاري بين قطاعات إنتاجية تعمل في حقول التجارة والخدمات، إضافة إلى الإنتاج الإعلامي. ولكن يبدو أن في لبنان من يريد حصر جدول الأعمال في شق سياسي وأمني، وهذا أمر لا يحصل بين دولتين مستقلتين، فكيف الحال بين لبنان وسوريا حيث التداخل قائم في أشكال عميقة ومتشعبة وتصعب إزالته بقرار إداري؟».
هذا الرأي الذي يقوله مسؤول سوري رفيع، لا يخرجه من إطار الحاجة إلى مراجعة حقيقية للعلاقات بين البلدين، والمراجعة الخاصة بتجربة سوريا في لبنان ما قبل اتفاق الطائف وما بعده. وهي المراجعة التي يفترض أن تنتهي بخلاصات واستخلاص للعبر، وهي مسؤولية مشتركة. لكن الأكيد أن التوتر القائم ليس من شأنه فتح الباب أمام تجربة من هذا النوع.
... هل يمكن حكومة سورية أن تنظر بعين مختلفة إلى لبنان مختلف؟
إنه السؤال الصعب. إلا أن من في يده القرار يعرف أن أي شيء، لا يمكنه إعادة الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً.
غداً: أمن وسياسة في لبنان.