strong>الجهاديّون قبل البارد: تقنيّون وماليّون ومكتشفو مواهب يزورون لبنان
كان تنظيم القاعدة قد بدأ بحصد استثماراته، حيث باتت الكوادر والمجموعات تتقن أعمالها، ولم يكن بوارد فتح جبهة محلية بأي شكل من الأشكال. بل، على عكس ذلك، كان الاختصاصيّون في التنظيم يكثّفون زياراتهم للبنان، للحضّ على مزيد من العمل

فداء عيتاني
قبل شهر واحد من معارك مخيم نهر البارد، كان تنظيم القاعدة قد استأجر العديد من الشقق في بيروت وضواحيها، وخاصة في المناطق المسيحية، لإبعاد الشبهات. كما راكم الخلايا اللبنانية في بلدات البقاع الغربي والأوسط، والشمال، وإقليم الخروب، والبقاع الشمالي، وعزز مجموعاته بالأسلحة الرشاشة، والقنابل اليدوية والمتفجرات وصواريخ اللاو المضادة للدروع.
وتكفّل القيادي الفلسطيني في القاعدة، المعروف باسمه المستعار جلال أ.، بعملية توزيع الأموال على مسؤولي خلايا القاعدة في لبنان بعد تسلُّمها من أحد علماء الدين في عين الحلوة. واعتمد أسلوب سحب الأموال من بطاقات الماستركارد من عناصر القاعدة من الصرافات الآلية وبمبالغ صغيرة، تجنّباً للفت الأنظار.
وتكفّل عدد من القياديّين اللبنانيّين في التنظيم الدولي بشراء أسلحة وذخائر انطلاقاً من شهر آذار، من تجّار سلاح لبنانيّين، وخاصة في منطقة بريتال في البقاع، ومن تجار السلاح في بلدة طاريا، وغيرها. وكانت إحدى المجموعات التي تسلّحت بهذه الطريقة، هي تلك التي أُعلن أنّها نفّذت عملية تفجير في وقت لاحق.
كان يجب الانتظار حتى نهاية شهر نيسان من عام 2007 لمعرفة ما يحصل في الشمال، حين نشرت «الأخبار» أربعة تحقيقات عن واقع الأمور هناك. ورغم كل المعطيات المتوافرة، لم تكن السلطات الأمنية تدرك ما يجري حولها، أو على الأقل لم تتعامل بجدية مع الوقائع، إذ انتشرت مجموعات جهادية في عدد من المناطق الشمالية بغية التدريب في أشهر الشتاء الأخيرة من شباط وآذار من عام 2007، وخاصة في منطقة الضنية الجبلية الوعرة والمشرفة على الساحل الشمالي، وصولاً إلى المناطق الساحلية السورية. وأقامت هذه المجموعات معسكرات في منطقة جبال الأربعين، ووادي الإجاص شرق إيزال. واستمرّت المعسكرات لمدّة أسبوعين أو أكثر، وكانت هذه المجموعات قد استصدرت تراخيص من الهيئات المدنية المشرفة على تنظيم المنطقة، ما يعيد مجدداً إلى حكاية الغطاء السياسي الذي كانت تتمتّع به هذه المجموعات الجهادية، وخصوصاً أن التراخيص أتت تحت مسمّى معسكرات كشفية، بينما تستحيل الإقامة في المنطقة في آخر أشهر الشتاء، فهي شديدة البرودة، ومغطاة بالثلوج، وشديدة الوعورة، وتتطلب تجهيزات خاصة، وكميات كبيرة من المحروقات لوسائل النقل ووسائل التدفئة، ونوعيات خاصة من الأغذية.
وبدأت تظهر أيضاً مجموعات جهادية في مناطق المنية وعكار، إضافة إلى الضنية وبرقايل، وعزاقير، وهي بقيادة اللبناني جميل س.، الذي يعمل بإشراف علي ح.، الملقّب بأبو بكر عقيدة، وهو من أبرز قياديّي القاعدة في لبنان، ومطلوب للسلطات اللبنانية ويقيم في منطقة أزمير في تركيا، ويتجوّل بجواز سفر مزوّر باسم كارلوس ج.
وفي منطقة البقاع الغربي، تصاعد نشاط الجهاديين في بلدات: لالا، المرج، كامد اللوز، مجدل عنجر، حيث كان يقود الخلايا وينسق أعمالها اللبناني أحمد الصانع المطلوب من القضاء اللبناني، وكانت هذه المجموعات تتحرك بكثير من الحرية، وتعقد اجتماعاتها في المساجد في المناطق التي تعيش فيها، وتنسق نشاطها مع أئمة مساجد. كما أقامت هذه المجموعات عبر منسقها الصانع علاقات عمل ونشاط مع مجموعات جهادية داخل سوريا، معروفة تحت مسمى «جند الشام»، وهي مجموعات اعتقل جزء منها في سوريا على خلفية أحداث الضنية عام 2000، إذ كان الصانع يزور سوريا للقاء أحد القياديين في جند الشام السوري من أصل عراقي سميح ن. والملقب بالشيخ أبو همدر.
وأنشأ الجهاديون في البقاع شبكة واسعة، وخزنوا السلاح والذخائر، وارتبط بعضهم على سبيل التمويه بعدد من القوى السياسية في مناطقهم كتيار المستقبل وحركة لبنان العربي التابعة لأحمد الخطيب. وحين شنت القوى الأمنية حملة اعتقالات في البقاع نهاية عام 2007، لم توفق بمن قبضت عليهم، إذ تبين أولاً أنهم أقل عدداً بكثير مما يفترض، وثانياً أنهم مشبوهون فقط ولا دلائل ملموسة عليهم.
ونشط في تلك الفترة أيضاً خط التهريب من سوريا إلى لبنان، حيث بدأت عناصر جهادية سورية ومن قوى جهادية سلفية تدخل إلى لبنان بمعية اللبناني عبد الله ح. وتسهيل منه، الذي سهّل دخول جهاديين من مختلف الجنسيات إلى مخيمات في الشمال والجنوب. وجرى تدريب العناصر السورية خاصة. وتولى عبد الله ح. السلفي الانتماء والذي تربطه علاقات واضحة بتنظيم القاعدة، التنسيق مع المجموعات القتالية القريبة من الإخوان المسلمين في سوريا، كما ساعد هذه المجموعات على توفير وثائق وجوازات سفر مزوّرة وإقامة لهم في لبنان.
وقبل أيام فقط من معارك نهر البارد، كان تنظيم القاعدة قد بدأ العمل على حصد استثماراته في لبنان، ليس فقط على مستوى العمل في أوروبا ومناطق مختلفة من العالم، بل على صعيد نقل المقاتلين الذين حصلوا على تدريبات عالية المستوى إلى الجبهة المشتعلة في العراق. ووصل إلى لبنان القيادي السعودي في تنظيم القاعدة، خالد الحربي، البالغ 45 عاماً من العمر والمقرب من أسامة بن لادن، وكان قد أنهى زيارته لسوريا، حيث التقى عدداً من القياديين الجهاديين في منطقة الرقة، قبل أن يدخل لبنان بجواز سفر سوري مزوّر باسم الأرمني جورج آرتين أ.
وفور وصول الحربي إلى لبنان، بدأ بعقد لقاءات مع خلايا جهادية في مخيمات: عين الحلوة، ونهر البارد، وبرج البراجنة، كما التقى عدداً من الجهاديين اللبنانيين. وكانت نتيجة زيارة الحربي إلى لبنان تجنيد عدد من المجموعات والمقاتلين للانتقال نحو العراق، إضافة إلى دول أخرى.
وفي تلك الفترة، غادر لبنان القيادي في القاعدة، التونسي الذي يحمل جواز سفر نمساوياً، نور طعام، في مهمة أمنية تشمل كلاً من بريطانيا، ألمانيا، وإيطاليا، وكان قد وعد بالعودة إلى لبنان في وقت لاحق. إلا أن معارك نهر البارد غيّرت مشاريع طعام، وهو سبق أن زار البارد قبل أسبوع من المعارك، كما تجول في مناطق الضنية، والتقى عدداً من القياديين الجهاديين في عين الحلوة، وبرج البراجنة، حيث كان برفقة القيادي التونسي عبد المؤمن م. الذي بقي في البارد مع بداية المعارك. وتكفل طعام قبل مغادرته لبنان، بصفته أحد الممولين للجهاديين في لبنان، بدراسة مشاريع صحية وثقافية في عدد من المخيمات، على أن يتابع سير إنشائها بعد عودته، حيث يمكن تنظيم القاعدة الاستفادة من هذه المراكز، علماً بأن طعام من الممولين لخلايا ومجموعات للقاعدة في دول أوروبية وأميركية.
ووصلت بعدها إلى لبنان مجموعة من القياديين في القاعدة من قسم العمليات الخارجية بحثاً عن الكفاءات المحلية لإرسالها إلى عدد من الدول الغربية، للعمل بمثابة خلايا نائمة هناك. وكان الواصلون يحملون كالعادة جوازات سفر مزورة نمساوية وتركية، وهم: اليمني محمد م.، وعبد الله م.، وعبد الرحمن ح. وعقد هؤلاء اجتماعاً في مخيم عين الحلوة ضمّ إليهم ثلاث شخصيات من تنظيمات جهادية محلية والشيخ الجزائري فتحي آ.، والمصري مصطفى إ. حيث اتفق على دعم المنظمات الجهادية بالمال والعتاد، وفتح حسابات مصرفية سرية في عدد من المصارف، تستخدم للتحويلات المالية التي تجري باسم أشخاص ومؤسسات تجارية وهمية، وتكثيف دورات التدريب لمجموعات وخلايا جهادية، وكذلك إنشاء خلايا ومجموعات جهادية تابعة للقاعدة، وخاصة لناحية البناء الهرمي العنقودي، مع الحفاظ على السرية في العمل، وإيجاد شقق وأماكن للخلايا الأصولية في مناطق مسيحية على سبيل التمويه، وتزويد المجموعات الجهادية بآلات طباعة تعمل وفق اللايزر لتزوير أوراق ثبوتية لاستخدامها في العمل. وتطورت قدرات الجهاديين على التزوير بمساعدة عدد من الاختصاصيين ومنهم: الأردني مزعل ع. والباكستاني عبد السلام ف.، والفلسطينيين إبراهيم ح.، وحسن ج.
غداً: شقيق الزرقاوي واثنان من عائلة بن لادن في لبنانhr noshade>
بداية المعارك
مع بدء المعارك في نهر البارد تكثفت حركة وصول المجاهدين إلى لبنان، وسجل في يوم واحد وصول ثلاثين عنصراً من جنسيات سودانية، وعراقية، وأردنية، ومصرية، دخلت البلاد عبر التهريب من الحدود السورية اللبنانية، والتحقت هذه العناصر بفتح الإسلام. وتخلى العشرات من أتباع الجمعيات السلفية عن قياداتهم، أو تواطأوا معها، والتحقوا بالمحاصرين داخل المخيم، أو جندوا أنفسهم خارجه في مواقع سرية في محيط مدينة طرابلس وداخل أحيائها الفقيرة، وانتظروا ساعة التمكن من الانقضاض على القوى الأمنية، إلا أن ما كانوا بانتظاره لم يحصل، وهم اعتقدوا بأن الجيش اللبناني سيُشغل من ناحية في معارك البارد وسيعطي ظهره للمدينة، ومن ناحية ثانية أن الجيش سيحاول اقتحام المخيم ضربة واحدة. ومع عمليات الدهم والتدابير الأمنية المكثفة التي شملت كل الشمال، وطول مدة المعارك التي لم يبد فيها الانزعاج على المحاصرين داخل المخيم، خفت حدة استنفار الجهاديين، ووقع بعضهم في يد الجيش، بينما نجح معظمهم في فك استنفاره والعودة إلى الحياة الطبيعية والنشاط السلمي.