إبراهيم الأمينليس في إمكان أحد في لبنان أو سوريا الدفاع عن مسلسل الأخطاء التي ارتكبتها سوريا في لبنان. ودفتر الحساب المفتوح من الجانبين على مستوى القادة هو غير دفاتر الحساب المفتوحة على مستوى الجمهور والقواعد. لبنان ليس وحده منبراً لأصوات تنتقد سلوك الاستخبارات السورية، بل في سوريا نفسها منتقدون. وإذا كان بين رجالات الحكم والسياسيين والإعلاميين في لبنان وسوريا من لديه موقف مما حصل، فإن الجمهور لديه ما شاهده وعايشه وأحسّ به طوال عقدين وأكثر.
بالطبع، يحلو لفريق 14 آذار وحلفاء الولايات المتحدة وإسرائيل في لبنان الكلام على سلطة الوصاية التي استمرت ثلاثة عقود. إنهم يريدون تجاهل الجرائم التي ارتكبتها عصابات تشكل القوة الضاربة في الفريق الأميركي ـــــ الإسرائيلي في لبنان، ويريدون تجاهل كون الجيش الأميركي ــــ ومعه جيوش من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا ــــ قد احتل لبنان إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي الذي دمر كل لبنان. ويريدون تجاهل ما رتّبوه هم من صفقات مع رجال الاستخبارات السورية في لبنان. لكن ذلك لا يمنع الحديث عن أخطاء يمكن مقاربتها بالآتي:
1ـــــ تصوّر المشرفون على عمل الاستخبارات السورية في لبنان أنهم سوف يحكمون لبنان إلى ما لا نهاية، وتدخلوا في كل شاردة وواردة، لهم كلمتهم العليا في تشكيل المؤسسات التنفيذية والتشريعية في الدولة، ولهم نفوذهم القوي على أجهزة الأمن والقوى العسكرية، ولهم حضورهم القوي في أندية السياسيين وأحزاب كثيرة، وكان لديهم الوقت الطويل لاستقبال هذا أو ذاك من السياسيين، وأظهرت معلومات مصدرها سوريا أو لجنة التحقيق الدولية أو معلومات الأغنياء من اللبنانيين الذين سرقوا الخزينة، أن بعض كبار ضباط الاستخبارات كوّنوا ثروات لا تتناسب ودخلهم الرسمي في الجيش السوري، ولا صلة لها بإرث في بلادهم، بل هي جزء من عملية الرشوة التي ازدهرت، وإذا كان صحيحاً أن في لبنان من تولى إفساد هؤلاء، فالأصح أنه لم يكن في سوريا من يمنع هذا الفساد أو يضع حدّاً له. وعلى ما كان يقول نجاح واكيم، إن حلفاً قوياً قام بين فاسدين ومرتشين على جانبي الحدود.
2ـــــ استسهل السوريون الإقرار بالتوزيع الطائفي للقوى السياسية في لبنان، وترك لعبد الحليم خدام وفريق سياسي وأمني إدارة الملف اللبناني على قاعدة أن من الأسهل حصر الإدارة اللبنانية ببعض الشخصيات التي تمثل رأس الطوائف، وكان خدام يقول إن الترويكا كفيلة بإدارة البلاد. أما الآخرون من معارضين وقوى سياسية فيمكن متابعة أوضاعهم من خلال قنوات جانبية. حتى وصل الأمر بأي قوة سياسية تريد تثبيت حضورها، إلى الاختيار بين أمرين: إما الالتحاق بهذه التركيبة وحجز مقعد هناك، وإما تلقّي العقاب تهميشاً واضطهاداً وإبعاداً. وهي السياسة التي جعلت البلاد محكومة بيد مجموعة، ما إن شعرت بتبدّل الأجواء والأهواء حتى نقلت البندقية من كتف إلى كتف. وإلا فمن يفسّر لنا سر صمود كل النافذين في قوى 14 آذار (ما عدا القوات اللبنانية) في فترة الوجود السوري ثم في قيادة التيار الذي يدّعي أنه أخرج سوريا من لبنان؟
3ـــــ تجاهل السوريون أهمية الملفات المشتركة بين الشعبين، واختاروا الموقف السياسي بديلاً من التفاعل في قضايا الاقتصاد والتعليم والتجارة. وحتى اللحظة لم يفهم أحد سبب عدم قيام أي مشروع صناعي بين البلدين، ولماذا استمرت مشكلة المياه، وكيف لم يفد لبنان بخبراته في القطاعات السياحية والمصرفية والطبية وحتى التعليمية، وكيف لم تساعد سوريا اللبنانيين على التعايش مع فكرة دولة ومجتمع وولاء لدولة أو وطن. وظلت الاتفاقات الموقّعة بين البلدين عبارة عن عبء مفترض عند قسم من اللبنانيين ظنوا أنها لمصلحة سوريا، فيما لم تفرض سوريا على إداراتها ولا على حلفائها في لبنان التعامل مع هذه الاتفاقات على أساس أنها بوابات العبور نحو تفاهم يتجاوز عنواناً عاماً اسمه المسار والمصير المشتركان.
4ـــــ وفّرت سوريا حماية لطبقة من السياسيين الفاسدين في لبنان، وفيها الآن من يأكل أصابعه ندماً عندما يشعر بأن من معه، هو بالضبط من كان عرضة لكل أشكال القمع من قبله أو من قبل حلفائه في لبنان: هل هناك الآن من يجيب عن سبب إخضاع المقاومة للعبة الابتزاز في وسطها الشيعي الضيق أو على مستوى الدولة ككل؟ وهل هناك من يجيبنا عن سبب «منطق العفو» الذي استخدمه العماد ميشال عون مع سوريا حكومة وشعباً ومؤسسات بعد كل ما تعرض له هو ومناصروه؟ وهل في وسع أحد أن يشرح للشعب اللبناني سبب عدم إيجاد حل شامل يقفل ملف المفقودين الذين تُتّهم سوريا بالمسؤولية عنهم، وأن تقول سوريا ما لديها عن جرائم قوى لبنانية؟ وهل يصعب على سوريا أن تشرح للبنانيين نوعية الطلبات التي كان يرسلها الحريري الأب مع عبد الحليم خدام أو إلى عنجر مع غسان بلعة، أو الرسائل التي كان يطلب وليد جنبلاط من وئام وهاب نقلها إلى رستم غزالة، أو جدول أعمال مفاوضات بطرس حرب ونائلة معوض وفارس سعيد وسمير فرنجية مع غازي كنعان؟
تبدو العلاقات اللبنانية اليوم رهينة أحداث الأعوام الثلاثة الماضية، كما ان الحديث عن الأخطاء التي ارتكبت كبير وطويل جداً، ومن الصعب تمزيق صفحات هذه الأخطاء من تاريخ العلاقة بين البلدين، وكل ما يحصل حالياً، أن هناك من يطوي هذه الصفحات أو بعضها، وهناك من ينبش بعضها الآخر. وإذا كانت ارتكابات 14 آذار وجماعة أميركا وإسرائيل كبيرة إلى حدّ أن في لبنان وفي سوريا من يقدر على تجاهل المرحلة الماضية، فإن ذلك لا يعفي المعنيين في البلدين من الشروع ومن دون استئذان أحد في مراجعة شاملة للعلاقات بين دولتين وبين شعبين وبين فريقين، ولا بأس بالعودة إلى عبارة الراحل الكبير جوزف سماحة: «نحو مراجعة وتوزيع عادل للمسؤوليات عما آلت إليه العلاقات اللبنانية ـــــ السورية»!