نقولا ناصيفبعد أيام على إعلان قائد الجيش العماد ميشال سليمان للزميلة «السفير» في 3 نيسان الجاري، أنه سيستعجل يوم 21 آب المقبل تقاعده، بعد ثلاثة أشهر، ويغادر منصبه في قيادة الجيش، فيترك الأخير بلا قائد وكرسيّ القصر بلا رئيس توافقي، كان بعض ردود الفعل على موقفه متعاطفاً، حتى من أفرقاء متناقضي المواقع كرئيس الحكومة فؤاد السنيورة ورئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون اللذين قالا إن سليمان يستمر مرشحاً توافقياً بعد مغادرته قيادة الجيش. بدوره، رئيس المجلس نبيه بري ثابر على تأييده مرشحاً توافقياً، مع أن لديه مرشحاً آخر هو الوزير السابق جان عبيد. وهكذا، عوض أن يتوقع قائد الجيش من موقفه المفاجئ حركة سياسية تلاقي ما رمى إليه ـــ وهو إخراج الاستحقاق الرئاسي من مأزقه ـــ بدا كأن كلامه مرّ عابراً. بعد أكثر من 10 أيام على ما قاله، لم يطرأ تطور يدفع في الوجهة التي توخاها تحذير سليمان، بل الأصح تهديده. وسواء راق كلام العماد البعض، أو أقلق البعض الآخر، أو لفت البعض الثالث إلى أن الرجل يستعد للتسليم بخروجه من استحقاق رئاسي لا يزال غامض المصير، ومن غير المؤكد أنه سيحصل قبل 12 آب أو قبل 21 تشرين الثاني، فإن التقاء الموالاة والمعارضة على مواصفاته كمرشح توافقي حتى إشعار آخر يتصل بمعطيات من أبرزها:
1 ـــ عدم التوهّم بإمكان فصل صفات الرجل عن موقع المؤسسة العسكرية. فهو مرشّح توافقي، لأن الجيش اضطلع في النزاع السياسي الناشب منذ عام 2005 بين الموالاة والمعارضة بدور توافقي. وقائده مرشّح توافقي لأنه نجح في قيادة المؤسسة العسكرية في منحى جنّبها الانحياز إلى فريق ضد آخر. وتالياً، يكمن مغزى الدور التوافقي لسليمان في أنه وحده القادر على حماية الاستقرار من أي فوضى محتملة تعصف بالبلاد. وقد قدّم أكثر من برهان على ذلك، وخصوصاً إثر أحداث 23 كانون الثاني 2007 و25 منه. على أن خروجه من قيادة الجيش وحلول رئيس الأركان العامة اللواء شوقي المصري محلّه موقتاً، أو تعيين حكومة السنيورة بغالبية ثلثي أعضائها قائداً جديداً للجيش، لا يبقي بالضرورة سليمان ـــ كضابط متقاعد في عمشيت ـــ مرشحاً توافقياً. لم يُختر كذلك لأنه مواطن صالح، أو سيعود كذلك بعد تقاعده، بل لأنه قائد للجيش يتعيّن عليه بعد انتخابه رئيساً، أن يستمر ساهراً على الدور التوافقي للجيش بين فريقي النزاع. وتكون له تبعاً لذلك كلمة فصل في اختيار القائد الذي سيخلفه في المنصب في مرحلة تالية لانتخابه.
2 ـــ لم يُنظر إلى الجيش مرة إلا كجزء من التسوية السياسية، حتى إذا اختلّت ورُفِع الغطاء السياسي عن موقعه داخلها، انهار أو انشلّ هو الآخر. بذلك عُدّ دوره باستمرار توافقياً، حتى قبل شيوع هذه اللفظة في الأعوام الأخيرة، وقيل دائماً إن الأمن الذي يحفظه في الداخل أمن سياسي قبل أن يكون عسكرياً. واقترنت وحدة الجيش وانضباطه وتماسكه بالدور الذي يقوم به، المستمد من موافقة الأفرقاء اللبنانيين على هذا الدور. وهو المعنى الأبلغ لموقع الجيش في الصراع الداخلي بألا يكون مع طرف ضد آخر، كيلا يستعيد تجربتي عامي 1975 و1983، وإن كان قد دافع عن شرعية دستورية هي على خلاف مع فريق سياسي. كاد ذلك يحدث أيضاً عام 1958 لولا قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب. خارج قيادة الجيش يمسي التوافق على النائب بطرس حرب، أو النائبين السابقين نسيب لحود وفارس بويز، أو الوزيرين السابقين ميشال إده وجان عبيد، أكثر شرعية.
3 ـــ يعرف العماد سليمان أن تخلّيه عن الاستحقاق الرئاسي يعرّض عرّابيه الرئيسيين، القاهرة وباريس، لمأزق، لكونهما، بحسب الأوساط الدبلوماسية الوثيقة الصلة بهما، اعتبرتاه المرشّح التوافقي الوحيد لأنه لا ينتمي إلى فريق، بل هو جزء من دور الجيش. مصر تقول إن تأييدها انتخابه كان في صلب ما اعتقدت أنه حافز للاتفاق مع سوريا على إنجاز انتخابات الرئاسة اللبنانية، فإذا به سبب لتعزيز خلافهما. وتقول أيضاً إنها وجدت قائدء الجيش مرشّحاً توافقياً ملائماً عندما كانت دمشق تعدّه حليفاً لها، وقد حملت السنيورة والنائبين وليد جنبلاط وسعد الحريري على تبنّي ترشيحه قبل أن يتولى هؤلاء بعد ساعات «تبليع» الرئيس أمين الجميل والدكتور سمير جعجع هذا الترشيح. بيد أن القاهرة صُدمت إذ لاحظت تخلّي سوريا عن سليمان ومضيها في تعطيل الاستحقاق. كذلك الأمر بالنسبة إلى باريس التي سمعت في مطلع آب الماضي، قبل أكثر من شهر على بدء المهلة الدستورية، إشادة بسليمان من الرئيس حسني مبارك، وركضت الدبلوماسية الفرنسية وراء تشجيع الأفرقاء اللبنانيين على دعمه مرشّحاً توافقياً وحيداً، وأن التوصّل إليه ـــ بحسب استنتاجات الدبلوماسية الفرنسية ـــ استغرق وقتاً طويلاً كي يتقدّم سواه من المرشحين الآخرين. الأمر الذي يعني أن تنحّيه، وفق ما يقول دبلوماسي فرنسي رفيع، لا يقود إلى مأزق البحث عن مرشّح توافقي آخر فحسب، بل يدفع بالموالاة والمعارضة والأزمة السياسية إلى الصفر، وإلى ما كانت عليه عشية شغور الرئاسة.
وفي واقع الأمر، فإن القاهرة التي نجحت عام 1958 في إخراج الأزمة من حرب أهلية صغيرة ناشبة بين الرئيس كميل شمعون ومعارضيه، باقتراح ترشيح قائد الجيش اللواء شهاب للرئاسة، تستسيغ تكرار المحاولة، إما لأنها تثق بالضباط رؤساء للجمهورية ـــ وهي لم تعرف إلا ضباطاً رؤساء للدولة ـــ وإما لاعتقادها بأن التسوية الممكنة بين طرفين متناحرين تقضي باختيار رئيس من خارجهما. غير أن الفارق الجوهري الذي ميّز إمرار تسوية 1958، أن الرئيس جمال عبد الناصر كان رئيساً لمصر وسوريا معاً، فيما إن مبارك هو اليوم على طرف نقيض مع سوريا، ويخوض معركة وقف تدخّلها في الشؤون اللبنانية بعدما خاض سلفه، قبل نصف قرن، معركة تعزيز نفوذها فيه قبل انتخاب شهاب.
عندما دعمت القاهرة سليمان مرشحاً توافقياً، كانت تجد فيه تسوية ترضي سوريا جزئياً، ما دام عُدّ مرشح الأخيرة الذي لا يضرب قوى 14 آذار. وهو بذلك مرشح تسوية بين نظامين أكثر منه رئيساً توافقياً بين فريقين لبنانيين عاجزين عن انتخابه، رغم إعلانهما تأييد ترشيحه. كل ذلك لأن الجميع انطلق من مسلّمة كون الرجل قائداً للجيش ليس إلّا.