أحمد محسنمن يستمع إلى الحديث المتكرّر عن المشعوذين، الأطباء الروحيين، البصّارين يظنّ أنّ المتحدّث يروي قصصاً حصلت قبل عقود. لكن الرُّواة هنا يسردون قصصاً عاشوها حديثاً. آمنوا بها سبيلاً لعلاج كثير من مشاكلهم وأمراضهم... وبعضهم لم يلجأ إلى الطبيب إلا بعد يأس من فشل «الطب الروحي»قضيب رمان، ورق تحت القبور، أُذُنا قط ذكر وبخور من سلطنة عمان من شجرة وحيدة أمام قصر السلطان قابوس.
هذا ليس مزاحاً. إنها وصفة حقيقية تناولها خالد (34 عاماً) من أحد المشّعوذين. خالد الذي يعاني أمراضاً عصبية في الرأس، يروي لنا بنفسه كيف تعّرض للضرب والجلد بقضيب الرمان، لتسوء حالته وينقل إلى العناية الفائقة، عدا عن خسارته أكثر من ألف دولار دفعها إلى «الطبيب الروحي»، الذي أقنعه بأن هناك جناً يحتلّ رأسه ويعبث به.
الرجل الذي تعّرض لخالد بالضرب، إضافةً إلى النصب والاحتيال، يعمل في المتن الجنوبي ويستعمل مكتباً فاخراً. اسمه الحقيقي مجهول لمعظم الناس ويُروى عنه، على لسان زبون آخر، أن «خالد خالف التعليمات لهذا فشلت الوصفة التي أعدّها له بإتقان». ويحذّر الزبون الآخر من الاستخفاف بموضوع العلاقة مع الجن أو وصف ما يقوم به الرجل بالشعوذة «لأن هذا العالم لا يسكنه البشر وحدهم، بل يشاركهم الجن بيوتهم وأجسادهم، ولديهم الطاقة التي لا يمكن البشر العاديين تخّيلها».
الناس في المنطقة يطلقون على المشّعوذ لقب «الشيخ». الكبار في السن يتجنّبونه، والأطفال يرتعدون عند سماع اسمه! أمّا القصص «الأسطورية» التي تروى عنه، وتنسب إليه وإلى أمثاله فمضحكة علمياً، لكنها تلقى تصديقاً واسعاً بين الناس.
محرّمات في «المحرّمات»
سميّة (38 عاماً) من سكان شارع عفيف الطيبي، ترفض الحديث عن تجربتها في بادئ الأمر، لكنها لا تلبث أن تتجاوب، مؤكدةً أن أحد المشايخ ساعدها على استعادة زوجها من طاولات القمار والكحول. لا تنكر أنها دفعت مبالغ طائلة من المال عبر بيعها معظم ما تملك من ذهب، لكن في نهاية الأمر، زوجها توقف عن ممارسة «المحرمات».
قصة سميّة مثيرة وشبيهة بالأفلام السينمائية، فقد حضّرت لزوجها مشروباً يتكوّن من مواد لا تعرف عنها شيئاً، وخلطتها بالكحول التي يشربها زوجها. استغرق الأمر وقتاً، تقول بثقة واللهفة تملأ عينيها الصغيرتين. «لم يكن يشعر بمفعول الوصفة لأنه كان ثملاً كعادته» تشرح سمّية، وتردف بلهجة فيها الكثير من الإصرار والتحدي «منذ ذلك الوقت، كره الكحول، لكنه يشرب البيرة من وقتٍ إلى آخر». أمّا بالنسبة إلى القمار فزوجها أفلس بعد أشهر، وتوقف عن اللعب، وهي متأكدة من أن إفلاسه «كان نتيجة الوصفة بالطبع». لكن، عندما نسألها إن كان زوجها سيعاود المراهنة إذا توافر لديه المال كما في السابق، تسكت لبرهة، ثم تقول «أعتقد أنه لن يعود إلى ذلك، الوصفة مضمونة مئة في المئة!».
جارات سميّة اللواتي كُنّ يستمعن إلى حديثها أبدين إعجاباً بقصتها، ونوعاً من الدهشة، لكنّ عدداً منهن أكدّ أنه لا يملك شجاعة الخوض في تجربة مماثلة، فيما رفضت أخريات الأمر لأنه باطل دينياً... واحدة أو اثنتان رأتا الأمر نوعاً من الهراء ولا فائدة منه.
العبور من زمن إلى آخرصيبة عين... أم إهمال؟!
يحرقون الرصاصة، فترسم شكلاً معيّناً، يشبه شكل أو مكان صاحب العين التي أصابت المريض (كما يعتقدون)، يلفونها بقطعة قماش، ويرمونها على جانب الطريق «ليسحقوا هذه العين». هذه الطريقة مستعملة كثيراً في المجتمع اللبناني كما تؤكد أم كمال (50 عاماً)، التي شرحت لنا تفاصيلها. هي تؤمن بها إيماناً تاماً، وتعطي دليلاً «ملموساً» على الحادث الذي حصل مع ابن أخيها الذي تعرض لحادث بسيارته، ونجا بأعجوبة: «اكتشفوا العين التي أصابته»!
السيارة تكسّرت بالكامل، والسرعة حسب التقديرات التي اعترفت بها أم كمال تجاوزت 120 كلم في الساعة، كما أن الطقس كان شتاءً والمطر يهطل بغزارة. «هذه الأشياء أسهمت في أن تأخذ العين مفعولها على ابن أخي»، تصرّ المرأة ولا جدوى من إقناعها باحتمالات أخرى، وخصوصاً أثناء استفاضتها في الشرح وتقديم الحلول، كالخرزة الزرقاء، وحدوة الفرس، وشعار الخمسة أصابع الذي جاء منه المثل الشهير «خمسة بعيون الحاسدين».
مسؤولية الإعلام
الدكتور محمد وهبي اختصاصي الأمراض العصبية، يعيد لجوء الناس إلى هؤلاء المشّعوذين إلى حقائق تاريخية متعددة أسهمت عواملها في تكوين هذه الثقافة السائدة. باعتقاده أبرز هذه العوامل هي «القهر الذي يتعرض له الإنسان نتيجة العوامل الطبيعية من جهة، ومن جهة ثانية أكثر أهميةً في العصر الحديث، السلطة المستمرة وعلاقتها السلبية بالأفراد». لهذا «يلجأ الأفراد للردّ على هذا العجز التاريخي أمام القوى الخارقة إلى وسائل دفاع تقليدية، أهمّها محاولة السيطرة على الحاضر عبر البحث عن قوى خارقة، تتخطى حدود العقل والطبيعة، كالسحر وتأويل الأحلام والتوسّل بالأولياء وأصحاب الكرامات».
المشّعوذون أو «الأطباء الروحيون» كما يطلقون على أنفسهم، يجمعون المشهدين العلمي والروحي ـــــ الديني، كنوع من استغلال سطوة الدين على المجتمعات الشرقية، لإكمال الصورة المبتغاة أي القوة الخارقة. ويؤكد الدكتور وهبي أن «جزءاً كبيراً من المشّعوذين صار يمتلك من الخبرة ما يكفي لتجنب العوارض السلبية ليصير محترفاً في خلق المشهد الذي يجمع بين العناصر الدينية والعلمية، عدد منهم يستعمل موادّ علمية كالفاليوم والليكزوتانيل، ويتلو آياتاً وتراتيلاً دينية في الوقت عينه».
ويصف هذا النوع من السحر بـ«عملية استعادة لمشهد طفولي حيث تؤدّي التربية دوراً أساسياً في خلق شخصية الفرد، وبالتالي، شخصية الجماعة». يقول: «في عملية التربية في الشرق، ينمو المرء عاجزاً واتكالياً، وفي أغلب الأحيان فاقداً للطموح، وذلك نتيجة العوامل القهرية التي ذكرناها سابقاً. في الطفولة يصوّر للأطفال أن الأب والأم قادران على أن يفعلا أشياء عجائبية، فيستعيدون هذا المشهد في الكبر نتيجة العجز الباطني المختزن في داخلهم، بلجوئهم الغريب إلى أحضان المشعوذين».
المخيف في الأمر أن الدكتور وهبي يتوّقع تفشي هذه الظواهر بشكل أوسع، «كل المؤشرات تدل على ذلك. على صعيد عام، العالم كله يعيش حالة حنين إلى الماضي والموروثات القديمة، أمّا في لبنان، فالأمر أصعب بكثير، ابتداءً من غياب السلطة القادرة على الردع، وانتهاءً بالإعلام، الذي يسمح لنفسه بالترويج لهذا النوع من الخرافات، على حساب الجسم الطبي». ويحمّل وهبي الإعلام مسؤولية كبرى، ويشير إلى جريدة للإعلانات أمام مكتبه طالباً منا أن نحصي عدد «المشايخ والعلماء الروحانيين» على صفحاتها، إضافةً إلى المحطات التلفزيونية التي صارت فيها حلقات الأبراج والتبصير ضرورية كنشرات الطقس والأخبار، كما تبث مجموعة منها إعلانات لمستحضرات وتركيبات غير مضمونة أو متوافق عليها طبياً، لأسباب تجارية بحتة. «كل هذا يسهم في تعبئة العقل بالغيبيات، واتجاهه نحو قوى يجهلها» يتابع الدكتور، محمّلاً نقابة الأطباء جزءاً من المسؤولية، لكون تقاعصها في مرحلة ما، قد أسهم في خسارة ثقة الناس بمحطات معينة، إلا أنها بدأت برفع الدعاوى وتقديم الشكاوى على كمية من التجاوزات، إلى المراجع المختصة، ويأمل أن تتحرك وزارة الصحة وتأخذ المبادرة بنفسها لإقامة حملات توعية شاملة، «لكن الإعلام يبقى الأساس»، مطالباً بحملة إعلامية مضادة وناشطة ضد انتحال صفة الطب.


الطبيب... بعد اليأس!
في عيادة طبيب الأعصاب، تجلس مريم بهدوء. مريم (50 عاماً) أم لسبعة أولاد، تصيبها هلوسات سمعية لا تفارقها. وفي العيادة أصابتها الهلوسة كالمعتاد، فراحت تقول كلمات غير مفهومة: «أخرج مني، يا ابن الكلبة، أريد أن أصلي، يا ألله يا ألله». تشعر بوخز في ساعديها، وتظن أن الجن يحضّها على ترك الصلاة، كما تصفه بأنه رسام وفنان، يريها صوراً عن الجحيم، ويقنعها بأن لا تصلّي خوفاً منه، كما أنه يرسم لها مسار حياتها بطريقة مفجعة. كل هذه الهلوسات تحصل على مرأى من ابنتها الصغيرة، وأختها التي شرحت كيف فشل «المشايخ في علاجها». رغم البخور والابتهالات الدينية التي لجأوا إليها، بقيت مريم تهّلوس، «فاضطروا» إلى أخذها إلى طبيب مختص بالأمراض العصبية نتيجة «اليأس»!!.
«لم يكن أحد من بيئتنا ليصدّق نظرية انفصام الشخصية التي قدّمها الطب إلينا، بينما آمن الجميع بأن شيطاناً أو جناً يلبسها»، تقول أختها. كما لم يكن بمقدور أهل مريم أن يشهروا العداء للمجتمع، فهم يعانون الآن أيضاً شفقة الأقارب والمعارف، ليس لأن مريم مصابة بانفصام الشخصية، بل لأنهم يرون أن لا علاقة للطب بحالتها، ويجب طرد الروح الشريرة من داخلها!!.
ثمة فيلم حديث، يروي تجربة مشابهة لمريم، وهو مقتبس عن قصة حقيقية، تخص فتاة جامعية اسمها إميلي. The Exorcism of Emily rose، يتحدث عن فتاة جامعية شابة يطيحها الموت نتيجة إصرارها على التوقف عن العلاج الطبي وتناول العقاقير وتصديقها لـ«الأب» الذي حاول استخراج الشياطين منها بلا جدوى. في الفيلم الأميركي يخضع الأب للمحاكمة وتحرج الكنيسة بشكل فاضح، رغم إعلان براءته على الطريقة الهوليودية. أما في لبنان وفي حالة مريم التي تأخر علاجها، فبقي «العالمان الروحيان» بعيدين عن أيدي العدالة، رغم سقوط الغطاء الديني والقانوني عنهما وعن المئات الذين يمارسون الشعوذة مثلهما. ربما ذهب أناس كثر ضحية الشعوذة، ووصفت ظروف موتهم «بالغامضة».