strong>راجانا حميةانطلقت الحافلة من بيروت في رحلة إلى الشمال. الشباب المرتحلون إلى المنطقة يعرفون وجهة السير فقط، لا شيء آخر. لكن يبدو أنّ الرحلة ليست ترفيهيّة، كما تشير إحدى المنظِّمات رشا نجدي. رحلة عمل، أو في أحسن الأحوال، رحلة مساعدة لِلَاجئين دُمّرت بيوتهم في بلد الشتات. إلى «البارد» إذاً، هكذا قرّرنا في يوم عطلتنا الأسبوعيّة أن نتعرّف عن كثب على تلّة ركام كان اسمها مخيّماً يقطنه أربعون ألف إنسان قبل أن يكونوا لاجئين. فنحن لم نرَ «البارد» بعد. لم نعش يوميّات «رسميّة» في كاراجات البدّاوي مع طفليها، وفي بقايا بيتها بعد انتهاء الحرب. لم يكن مهمّاً أن نرى ذلك في تلك الآونة، ربّما لأنّه حين كانت رسميّة تبحث عن «كسرة» خبز للطفلين، كانت الوسائل الإعلاميّة تنقل لنا حرباً عسكريّة بين مقاتلين وإرهابيين، وكنّا مكتفين.
■ ■ ■
الحافلة تسير، لكنّها ما زالت في بيروت. تخترق مناطق ليست غريبة بالنسبة إلينا لكن لا يعرفها الجميع. ثمّة شباب لم يزوروها من قبلُ فكان السؤال عنها مناسبة للتعارف بين بعض منهم. هم ليسوا من المكان نفسه، أو أنّهم ليسوا من المكان أصلاً، يسكنون في مناطق محدّدة فيه، في مخيّمات أو ضواحٍ ربّما. لكن لم يكن مهمّاً معرفة هذا التفصيل، فالكلّ كان مشغولاً بالرقص والغناء، للهرب من ضجر المسافة الطويلة التي تفصلنا عن «البارد».
ساعتان ونصف ساعة غارقون في الموسيقى والأكل والنوم. لا أحد يفكّر في المخيّم المقصود، ولا أشخاصه، ولا في آلية الدخول إليه ولا في «الهويّة الزرقاء» التي كانت، عند أوّل حاجز عسكريّ، سبباً أوّل لعودة اللاجئ إلى واقعه.
■ ■ ■
على حاجز «العبدة»، نزل الشباب إلى الأرض. هنا تبدأ الرحلة الموحشة إلى تلّة الركام، وهنا تتغيّر ملامح الجزء البحري من المدينة، ويبدأ معها «الفرز» بين لاجئ ومواطن له الأولويّة ــ تسعفه بطاقته الشخصيّة وأرضه ــ في الدخول إلى المخيّم. أمّا الباقون الذين كانوا يتخطّون في أعدادهم عدد «المواطنين»، فكان نصيب اثنين منهم البقاء خارجاً، لعدم التطابق بين معلوماتهما و«إضبارة» الجيش اللبناني المكلّف حماية المخيّم. خرجا وبقي من بقي، ينتظر التفتيش، الذي لم يكن روتينيّاً. فإضافة إلى التدقيق في التصاريح التي كان على المنظّمين تأمينها قبل أسبوع من الرحلة، يتحتّم على عناصر الجيش القيام بثلاث جولات أخرى من التفتيش، جولة أولى يخضع لها الداخل إلى المخيّم وثانية لأغراضه، وثالثة للباص الذي أُفرغ من محتوياته ونُبش كلّ ما يمتّ فيه بصلة إلى الحديد، خوفاً من نقل «الممنوعات».
تفصيل، بدا في رأي البعض مألوفاً، وخصوصاً بعد حرب دارت رحاها في هذا المخيّم، لكنّه لم يكن جميلاً بالنسبة إلى فلسطينيين، استعادوا عند «العبدة» مأساة تهجيرهم من أرضهم، فلم يعد بعضهم قادراً على الصمت، مستعيضاً عنه بسؤال محدّد «ما معنى كلمة لاجئ؟».
■ ■ ■
«ما معنى كلمة لاجئ؟»
حارت الفتاة في الإجابة عن سؤال زميلها، رغم معرفتها أنّ اللاجئ «هو من فقد أرضه، ولجأ إلى مكان آخر، بلد آخر بناءً على قرار دوليّ». لكنّ حيرتها ناتجة من أنّ صديقها لا يقصد التعريف الرسمي للكلمة، فهي تعرف أنّه يقصد شيئاً آخر يلائم الوضع الطارئ عند الحاجز العسكري. صمتت، لأنّها خسرت الرهان، ولأنّها ليست لاجئة أيضاً، تاركةً لمن يعيشون اللجوء حرّية الترجمة.
كانت صائبة في صمتها. فالإجابة تحتّم علينا أن نختبر الشتات. والكلمة، بحسب قاموس اللجوء لهؤلاء، تعني «المرمطة على أرضهم»، «اللاجئ يعني فلسطيني فقط والفلسطيني مغلّب من يوم ما الله خلقه»... وأخيراً اللاجئ «يوفو، يُعامل كزائر في أرض غيره، ومتطفّل على بلدٍ لا يرغب فيه».
■ ■ ■
ترجّل المتطوّعون في اللجنة الشبابيّة التابعة للحملة الأهلية لإحياء الذكرى الستين للنكبة من الباص، ونزلوا في النادي الثقافي الفلسطيني حيث من المفترض أن يلتقوا شباب الباصين الآخرين الآتين من بيروت أيضاً. هنا، في النادي، كلّ شيء يشبه ما نعرفه عن فلسطين. عند المدخل، جدار أبيض يتوسّطه رسم مفتاح العودة وإلى جانبه حنظلة، تحوطه أسماء المدن الفلسطينيّة التي استطاع اللاجئون إحصاءها ومشاريع رسائل يحلمون بإرسالها إلى «بلد الزيتون". في الداخل، صور بالأبيض والأسود وأخرى بالألوان للتهجيرات والمجازر التي تعرّض لها اللاجئون منذ تشريدهم، وصور المخيّمات السليمة منها والمدمّرة، مذيّلة بالعبارة نفسها «d0o you remember the past?».
انقسم المتطوّعون إلى أربع مجموعات، كلّ واحدة منها حملت عدّتها بقيادة شابّ من المخيّم، ليرشدها إلى مكان عملها.
■ ■ ■
لم تكن خلود بحاجة إلى من يرشدها في المخيّم الذي تزوره للمرّة الأولى، فهو الآن لم يعد، كما وصفوه لها قبل فترة من الدمار الذي عصف به «كبيراً وقد تضيعين بين شوارعه». بات كأيّ تلّة ركام أخرى صادفتها في الجنوب خلال حرب تمّوز. الطرقات عادت ترابية، كما لو أنّها بداية إنشاء مخيّم، والأبنية بُترت أجزاؤها وخرجت منها تفاصيل حياة كان يعيشها هؤلاء اللاجئون. هنا كانت غرفة فتاة مراهقة ربّما لم تتجاوز الخامسة عشرة، هذا ما تشير إليه أغراضها وثوبها المرميّ وسط الركام والكتابات الموجودة على قطعة خشب من خزانتها، وهناك صالون، بقيت منه نصف طاولة. وغيرها من اليوميات الفلسطينيّة التي نُبشت ذات حرب مرّت قبل أشهر على المخيّم.
هذا جزء من المخيّم واسمه «حيّ المجلس»، أمّا المخيّم القديم، فليس وارداً في هذه الفترة اللجوء إليه. وإن كان لا بدّ لأحد سكّانه من الدخول إلى ركام بيته، فعليه التفكير قبل ذلك بأسبوع ليحصل على الترخيص... والمرافقة الأمنيّة.
هذا الجزء الذي كان اسمه حيّ المجلس تحوّل إلى مجموعة من «الأنصاف». نصف أبنية، نصف غرف، نصف حياة لا يرمّمها إلّا اللاجئ نفسه، بعدما تركته الجهات الدوليّة لحال سبيله، واللبنانيّة التي لم تسأل يوماً. ولكن، إنّ كنّا نراه كذلك، فإنّ «خلود» اللاجئة في مخيّم شاتيلا وجدته جميلاً رغم ركامه. من فجوات القذائف والرصاص، تنظر الفتاة إلى بقايا المطبخ المطلّة على الشارع العام، وتستنتج أنّ "قاطني هذا البيت أغنياء، وهيك مبيّن كلّ المخيّم". تعود بنظرها إلى محدّثتها لتخبرها عن زواريب مخيّم شاتيلا «الذي يعجّ بالبيوت والناس الفقراء».
■ ■ ■
لاجئة شاتيلا لم تتأثّر كثيراً بدمار المخيّم، «لأنّه يمكن ما تعرّضت أنا لهيك إشيا». ولكن ثمّة كثر تأثّروا به، هم أبناؤه الذين يرفضون البوح بأسمائهم الكاملة خوفاً من عناصر الجيش المتربّصة زوايا شوارع المخيّم.
في البيت، الذي كان ربيع وطارق وعائشة يساعدون على لمّ حطامه، كان مازن أيضاً صاحب البيت يساعدهم على تنظيف المدخل من ركام السطح الذي انهار في الأسبوع الأوّل على بداية الحرب. مازن ينقل الركام إلى الخارج، ولكن من هم في الداخل أمكنهم رؤية أغراضه وأغراض شقيقه. فمع كل «نقلة»، ثمّة شيء يشي بأنّه فلسطيني، وإن كان «كاسيت» أغانٍ. ثلاثة أو أربع «كاسيتات» تضعنا أمام احتمالين، فإمّا أنّه مراهق مغرم أو فلسطينيّ يائس، فبين «يا قلبي مين يداويك»، و«مين بيحسّ بيك»، والعبارة التي تذيّل معظم الكاسيتات «جميع الحقوق محفوظة»، نتساءل هل «حقوق هذا الشاب أو الفلسطينيّ محفوظة؟». ننهي تنظيف البيت ولا نجد جواباً للسؤال، لأنّ دمار المخيّم لا يوحي بهذا.
■ ■ ■
تساءلت عائشة عن السبب الذي يدفع العسكري للصعود معنا إلى سطح المبنى، فأجابتها رفيقتها «إنّه في مخيّم نهر البارد بيطلعلك مع كل بناية مدمّرة عسكري هديّة». لا يبدو أنّ أحداً في المخيّم يحبّذ هذا الوجود العسكري، ولكنّه موجود في كلّ بيت، إذ استطاع العسكريّون مع الوقت «استحلال» بعض البيوت في حيّ المجلس، عدا عن المخيّم القديم الذي يحظون به كاملاً حتّى هذه اللحظات. ليس هجوماً على الجيش ولا عناصره المحكومون، بطبيعة النظام العسكري، تنفيذ الأوامر المطلوبة منهم، إنّما هو مشهد رأيناه في المخيّم في الزيارة الأخيرة، ورآه أحد السكّان في اللحظة الأولى لدخوله إلى ركام بيته. يتذكّر الجدران «الملغومة بعبارات غير أخلاقيّة»، ومذيّلة بتوقيع «اللواء الخامس»، وفضيحة «الأواعي الداخليّة للنساء المعلّقة على الحبال»، وعبارة «من أين لك هذا يا فلسطينيّ»، وحكاية الأم وطفليها المبلّلين بمطر الشتاء، التي نزفت عند حاجز العبدة بعدما ضربها مسؤول الأمن بالحائط، لأنّها تأخّرت نصف ساعة عن موعد حظر التجوال، والطفل الذي نام في «النظارة» بتهمة إرسال السلاح إلى الإرهابيين، لأنّه كان يجمع بقايا الرصاص وحديد الأعمدة ليبيعها، والشاب الذي كادت ابنته تموت لأنّه خرج في وقت متأخّر من الليل. وغيرها من القصص التي حوّلت حياة 40 ألف فلسطينيّ لاجئ في المخيّم إلى شتات، يحاولون اليوم ترميم بعضها باختراع وسائل عيش جديدة، داخل الغرف الحديديّة والخيم التي قدّمتها الأونروا...إلى حين تبدأ إعادة
الإعمار.
■ ■ ■
في حيّ المجلس، يحظى عناصر الجيش اللبناني بعمل إضافي غير الحماية الأمنيّة التي كُلّفوها. هذا ما «خُيّل» لبعض أبناء المخيّم، الذين تسلّلوا إلى «الخان» ليروا هؤلاء العناصر يتحضّرون بزيّهم وبنادقهم لإلقاء القبض على «شاكر العبسي». طبعاً، لم يكن شاكر العبسي هناك ولا الفتاة هي هيفا وهبي كما تخيّلوا، لكن العناصر قد يكونون فعلاً عسكريين، هذا ما يؤكّده الشباب الذين تسلّلوا إلى الخان، ليشاهدوا لقطة كان يصوّرها ممثّلون زائرون يظهر فيها ثلاثة عسكريين ينقلون «إرهابيّاً» ملطّخاً بالدماء إلى سيّارة الإسعاف، ويرفعون فوق المبنى المدمّر العلم اللبناني. وربّما كان العسكريّون، إن كانوا هم أنفسهم الممثّلون، مكلّفون تصوير هذه اللقطات، كما هم مكلّفون أيضاً الحماية الأمنيّة.


strong>«هيئة البارد لإعادة الإعمار»
ثمّة خوف فلسطيني من ألّا يعود الجزء البحري إلى المخيّم، غير أنّ ما يجري بعيداً عن أعين البعض ينسف ما يتداولونه، أقلّه بالنسبة إلى ما أنجزته هيئة «البارد» لإعادة الإعمار حتّى الآن والتي تتكوّن من أبنائه الذين تداعوا خلال فترة الحرب، إلى وضع مبادئ إعادة الإعمار. بعد الحرب مباشرةً، وزّعت الهيئة ورقة المبادئ على أبناء المخيّم ليعدّلوا فيها وليبدأوا العمل على أساسها. فكانت أولى مهماتهم رسم خريطة المخيّم، أو بتعبير أدقّ رسم خريطة لمخيّم لم تكن موجودة أصلاً، مستعينين بذاكرة «حفظت زوايا الشتات». انتهت الخريطة، وبدأت معها المرحلة الثانية من الإحصاءات. وفي هذا الإطار، يلفت المهندس المعماري وتخطيط المدن اسماعيل الشيخ حسن إلى «بعد رسم الخريطة، انطلق كلّ شخص منّا من الزاوية التي يعرفها أو تخصّه، للدلالة على من يقطنها من أهله والجيران لجمع المعلومات عن عدد العائلات التي تسكن المبنى وعدد أفرادها وعدد الغرف...».
أواخر شهر تشرين الأوّل الماضي، كانت الهيئة قد أنهت إحصاءاتها. تهيّأت عندها الأونروا لتسلّم ملفّ إعادة الإعمار «ما يعني تسلّم المعلومات التي وصلت إليها الهيئة للتفاوض مع الحكومة اللبنانيّة». وهو ما تجنّبت الهيئة حصوله، كما يشير الشيخ حسن، مشترطة تسليم المعلومات بتشكيل لجنة تخطيط مشتركة بين الأونروا واللجنة تتكفّل المفاوضة، "فنحن السكّان أقدر على تحديد شكل مخيّمنا وخطوطه الحمراء". تكوّنت الهيئة، ونفّذت التخطيط المبدئي المتعلّق بتدقيق المعلومات التي جرى جمعها وإعادة البيوت إلى مكانها في الخريطة. أمّا التخطيط التفصيلي الذي ينتهي أواخر الجاري، فيتضمّن درس الخريطة من الناحية التقنيّة والبنى التحتيّة ومدى تطابقها مع واقع المخيّم. في المرحلة الأخيرة التي تسبق عملية الإعمار، تجتمع كلّ مجموعة مكلّفة دراسة جزء من المخيّم مع أهالي هذا الجزء لدراسة شكل البيت. ويشير الشيخ حسن إلى «أنّ هذه الاجتماعات قد تستغرق فترة ما بين 10 و12 شهراً، يليها التصميم ومن ثمّ تسليم عمل المجموعات الست تباعاً للبدء بالإعمار».