نقولا ناصيفلم تتقدّم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بعد بطلب رسمي من جامعة الدول العربية لعقد اجتماع لوزراء الخارجية العرب، بغية مناقشة ملف العلاقات اللبنانية ــــ السورية، عملاً بما قرّرته القمة العربية في دمشق في 30 آذار.
كذلك لم يُثر السنيورة في جولته العربية الأخيرة هذا الموضوع مع الزعماء العرب. ومن غير المؤكد تقدّم الحكومة بمثل هذا الطلب في مدى قريب، رغم أنه شكّل مرتكز الخطاب الذي توجّه به رئيسها إلى الزعماء العرب عشية قمة دمشق في 28 آذار. في مقابل ذلك، لم تلمس حكومة السنيورة حتى اللحظة مناخات مؤاتية لطلب عقد الاجتماع في ملف يعتقد مصدر حكومي بارز أنه بات أكثر تعقيداً مما يبدو، ويتجاوز المشكلة اللبنانية ــــ السورية إلى أبعاد إقليمية تتخطى الأفرقاء المعنيين بمناقشة هذا الملف، وهم الجامعة العربية ولبنان وسوريا. وقد يكون أبرز ما تنطوي عليه هذه الأبعاد وجود إيران في معادلة المشكلة اللبنانية ــــ السورية.
وبحسب الخلاصة التي يوردها المصدر الحكومي البارز عن نتائج الجولة الأخيرة للسنيورة، أفضت هذه إلى معطيات، منها:
1 ــــ تميّز الحكومة بين انعقاد اجتماع وزراء الخارجية العرب ومناقشة العلاقات اللبنانية ــــ السورية التي هي هدف الاجتماع كي لا تبدو الأخيرة غاية في ذاتها. تالياً، من غير المؤكد أن سوريا ستحضر اجتماعاً كهذا تدعى إليه، الأمر الذي يجعل الدعوة من دون طائل. أضف أن دمشق لم تبدِ حتى الساعة موقفاً محدّداً حيال استعدادها مناقشة ملف علاقات البلدين برعاية الجامعة العربية، مع أن إدراجه في متن المبادرة العربية بنداً مستقلاً ورئيسياً انبثق من قمة دمشق، بعدما كان وزراء الخارجية العرب قد تبنّوه في اجتماعهم التمهيدي لأعمال القمة في متن القرارات التي صدرت في ما بعد عن القمة.
ولا يعني ذلك بالضرورة استعداد سوريا للخوض في هذا الموضوع حالياً. ذلك أنها تجاهلت خطاب رئيس الحكومة اللبنانية عشية القمة وغداتها، ووجّهت اهتمامها في الأيام التالية، حتى الأمس القريب، إلى البعد المحلي في الأزمة، على أساس أن هذه لبنانية ــــ لبنانية لا شأن لدمشق بها، غير أنها مستعدة لمؤازرة اللبنانيين في التوصّل إلى حل أزماتهم الداخلية. وهو موقف لا يكتفي بتجاوز ما نصّ عليه قرارا القمة عن المبادرة العربية والتضامن مع لبنان، ومن خلال ذلك العلاقات اللبنانية ــــ السورية، بل يذهب ضمناً إلى تأكيد موقف سوري قديم خبره اللبنانيون في العقود الثلاثة الأخيرة، وهو أن القيادة السورية لا تناقش ملف علاقاتها بلبنان في حضور شريك ثالث.
2 ــــ رغم أن سوريا ترأس القمة العربية من الآن حتى نهاية آذار 2009، ليس في وسعها منع اجتماع وزراء الخارجية العرب، لكون انعقاده يأتي بناءً على طلب دولتين عضوين في الجامعة يُرفع إلى مجلس وزراء الخارجية العرب الذي ترأس دورته الحالية جيبوتي، وستخلفها السعودية. وهو أمر يقلّل من أهمية الاعتراض السوري على انعقاد الاجتماع، إلا إذا امتنعت عن حضوره. وحينذاك، تبدو آلية الدعوة والحق القانوني للبنان في طلب الاجتماع، عديمي الجدوى. الأمر الذي تداركته حكومة السنيورة حتى الآن بتفادي طلب متهوّر لانعقاد هذا الاجتماع.
ومع أن رئيس الحكومة تجنّب مفاتحة مصر والسعودية بهذا الطلب، فقد لمس من حواره مع زعيمي هذين البلدين أن الظروف غير ملائمة لنجاح الخوض في العلاقات اللبنانية ــــ السورية، على الأقل لا عوامل مشجعة تبرّر انعقاد الاجتماع على غرار اجتماع 5 كانون الثاني الفائت في القاهرة، بدعوة من مصر والمملكة، وحضرته سوريا، وأمكن خلاله التوصل إلى إقرار المبادرة العربية بإجماع الوزراء العرب جميعاً. إذ لولا موافقة دمشق حينذاك على الدعوة المصرية ــــ السعودية إلى اجتماع القاهرة، لما كان يُكتب للمبادرة أن تبصر النور.
يقود ذلك المصدر الحكومي البارز إلى التأكيد أن المرحلة التالية لن تتعدّى تحرّكاً دبلوماسياً ضمن التفويض الذي أعطته قمة دمشق للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى كي يهيّئ للخوض في ملف العلاقات اللبنانية ــــ السورية.
3 ــــ لمس رئيس الحكومة في جولته الأخيرة، التي سيستكملها لاحقاً، مزيداً من التفهّم العربي لمشكلة لبنان مع سوريا. وفي واقع الأمر، لا يقول السنيورة، وكذلك حلفاؤه في قوى 14 آذار، بخلاف مع سوريا، وإنما أزمة مزمنة ومتشعبة لا يتردّد المصدر الحكومي البارز في أن يعيدها إلى 88 عاماً، منذ وُلد لبنان الكبير. لم تبدأ مع الحكومة الحالية، إلا أنها أضحت أكثر تعقيداً في السنوات الثلاث المنصرمة، بعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من هذا البلد. ولم يعد موقف الحكومة اللبنانية يقتصر على الإصرار على إقامة تبادل دبلوماسي بين البلدين وترسيم الحدود وكشف مصير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، بل يتوخى إعادة بناء علاقات بلدين متجاورين وفق نمط جديد لم يخبراه، وهو ما أبرزه السنيورة في خطابه إلى الزعماء العرب عشية قمة دمشق، عندما تحدّث عن مبادئ جديدة ينبغي أن يرسيها البلدان في تعامل أحدهما مع الآخر من دولة إلى دولة.
وإذ يدافع المصدر الحكومي عن وجهة نظر السنيورة، السبّاق إلى زيارة دمشق في 31 تموز 2005، بعد ساعات قليلة من نيل حكومته ثقة مجلس النواب ــــ وكانت الزيارة الأولى والأخيرة حتى الآن ــــ في حمأة المواجهة بين قوى 14 آذار ودمشق، لم يلقَ رئيس الحكومة آذاناً صاغية، ولا نجح خلال مقابلته الرئيس السوري بشار الأسد في إرساء تفاهم لبناني ــــ سوري، ولا أشعرته الزيارة ولا تطورات الأشهر التالية والحملات السورية المتتالية عليه بوجود رغبة سورية في مناقشة علاقات
البلدين.
اهتم السنيورة كذلك، في جولته العربية، بتفسير ما شاع عن «الخلاف اللبناني ــــ السوري»، وهو أن ما بين البلدين ليس خلافاً بالمعنى الضيّق للعبارة، بل أزمة حقيقية من شأنها أن تدفع بلبنان ونظامه ووحدته إلى الزوال، وطلب الاحتكام إلى الجامعة العربية ما دام ذلك يدخل في صلب مسؤولية الأخيرة عندما ينشب خلاف حاد بين دولتين عربيتين جارتين، لم يعد بينهما ما كانت قد شهدته عقود الأربعينات وصولاً إلى منتصف السبعينات من حوادث أمنية صغيرة واعتداءات على مخافر الحدود، ناهيك بالنزاعات الحدودية.
والواقع أن السنيورة قاد منذ مطلع آذار الماضي حملة مدروسة لتحديد الإطار الطبيعي للأزمة الدستورية والسياسية اللبنانية، وهو تأثرها بالمشكلة الأم التي هي تدهور العلاقات اللبنانية ــــ السورية. وهو ما أبرزه للزعماء العرب الذين جال عليهم بتجاهله الكلام عن تفاصيل الخلاف اللبناني ــــ اللبناني والتركيز على قلب المشكلة انطلاقاً من أن المشكلة اللبنانية ــــ السورية سابقة لشغور رئاسة الجمهورية، ولخلاف الموالاة مع المعارضة على الحكومة الحالية، بل تتصل بالتدخّل السوري في الشؤون اللبنانية، تارة لدى اللبنانيين حلفاء دمشق، وطوراً باستخدام الأراضي اللبنانية منطقة عمليات ومقار عسكرية لتنظيمات فلسطينية تأتمر بالعاصمة السورية.
وما رغب السنيورة في تأكيده للزعماء العرب أن المبادرة العربية، في شقّها اللبناني الداخلي، لا تشكّل في ذاتها حلاً، أو مخرجاً، للمشكلة مع سوريا، ولا انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو أيضاً مخرج للمشكلة نفسها، وإن يبدو منطقياً عندئذ أن الرئيس الجديد هو مَن يقتضي أن يقود الحوار مع دمشق.