كان ثمّة من يطمح في الغرب إلى امتداد النسق الإسلامي من لبنان إلى سوريا فداء عيتاني
تابع اللبنانيون والعالم عبر الفضائيات ووكالات الأنباء العالمية معارك مخيم نهر البارد. كل ما شاهده العالم من الحرب بين أحد أجنحة القاعدة والجيش اللبناني صار عزيزاً على الوصف، ولم يخرج إلى العلن الكثير من روايات المجاهدين. بعد نشر عشر حلقات من «القاعدة في لبنان»، كان لا بد من هذه القراءة السياسية

نفّذت القوى الأمنية بضع عمليات سريعة للقبض على عدد من الشبكات المتهمة بالعمل تحت لواء تنظيم القاعدة، وانطلقت القوى الأمنية من خلفية أن «تنظيم فتح الإسلام أصبح تحت السيطرة» بعد ضربة نهر البارد، وأن مداهمات لالا في البقاع الغربي، وتوقيف الشبكة المتهمة بتنفيذ عملية القاسمية ضد اليونيفيل، واعتقال نبيل رحيم المطلوب منذ بدايات عام 2007 في طرابلس، أن كل ذلك قد وضع القاعدة في لبنان في حالة محرجة.
في التقديم السياسي لما كان من أمر القاعدة وخلاياها في لبنان، فإن للعديد من الأطراف اللبنانيين قراءة للأحداث أكثر تماسكاً من تلك التي تقدمها الموالاة والمعارضة سواء بسواء، وبينما تصرّ قوى 14 آذار على أن «فتح الإسلام» هي صناعة سورية، ألقت دمشق بها إلى لبنان وأشعلت حرباً ضروساً تشبه حروب الإلياذة، تؤكد المعارضة في المقابل أن «فتح الإسلام» وليدة ضخ سعودي للعناصر والكوادر، وتشجيع من القوى الأمنية التابعة للموالاة.
وتقدم بعض القوى في لبنان رؤية قائمة على مجموعة معلومات، لا تخلو من اتهام مبطن أو معلن لسوريا بالتسهيل لعمليات العبور القاعدي إلى لبنان وغض النظر، ودفع المجاهدين لترك دمشق والمحافظات السورية تحت وطأة مطاردة أمنية يومية قاسية، مشيرة إلى معارك عنيفة وقعت مع مجموعات جهادية في بعض المناطق السورية ولم يعلن عنها.
هذه القراءة التي تنبني على كون «فتح الإسلام» مزيجاً لمجموعة كبيرة من المعطيات والعوامل ولا يمكن رؤيتها من منظار واحد، تفيد بأنه لم يكن بد أمام السلطة في لبنان من الوقوف في وجه المحور الإيراني ـــــ السوري، وكانت بحاجة إلى أدوات قادرة على خوض المواجهات.
وكان اكتشاف الكلمة السحرية، «الفتنة»، أكثر ما يخيف حزب
الله.
الفتنة هي ما نجح في العراق، وهي ما يستخدمه أقطاب المحاور، من السعودية إلى الولايات المتحدة، وبالتالي قوى 14 آذار في لبنان، ولا يعفّ الفريق الآخر، من طهران إلى دمشق، عن الاستفادة من الفتنة نفسها في العراق.
نجح الفريق الشيعي في لبنان بفرض مفهوم جهادي كان يمكن إثارة عواطف الجهاديين السنّة، لا بل تمكن من الدخول إلى نفوس العديد منهم، وبدأ في عمليات تعاون وخاصة مع جبهة العمل الإسلامي.
كما أثبت تجمع العلماء المسلمين نجاحاً في التخاطب مع العلماء السنّة. إلا أنه، وفي المقابل، تمت الاستفادة من كل ما يمكن أن يباعد بين السنّة والشيعة، من الرواسب التاريخية إلى العمليات الانتحارية للقاعدة ضد الشيعة، وفظائع مقتدى الصدر في العراق، إضافة إلى صراع عنيف خاضته الولايات المتحدة ضد ما قام به المحور السوري ـــــ الإيراني، الذي يطلق على نفسه لقب «محور الممانعة»، من تعميق للمشكلات الأمنية الأميركية في
العراقورغم الضغط الأميركي، وإغراء سوريا إغراءً متواصلاً لفك تحالفها مع إيران، فإن هذا الخيار أخفق، وضمنت إيران العديد من المكاسب بهذا التحالف، كما أثبتت سوريا لأعدائها في الولايات المتحدة، كما في لبنان، أن إخراجها من الدولة الصغيرة المجاورة لا يعني إسقاط النظام البعثي ببضع تظاهرات وكمية من
الشعارات.
وكان أحد الخيارات الأميركية هو الضغط على القاعدة في العراق، لطرد أكبر عدد من كوادرها وإجبارهم على التراجع من مناطق العشائر خاصة، والدخول إلى سوريا، وهناك فإن القاعدة ستمارس أفضل ما يمكنها ممارسته طبعاً: القتال حتى الشهادة.
وفي المقابل كان لبنان إحدى الساحات الرئيسية لتنسيق مشروع «ديموقراطي وحضاري وتنموي» بعد فشل مدوٍّ في العراق. وفي هذه السبيل لا بد من تحوّل الشيعة في لبنان إلى الإرهاب، ولا بد من دخول القاعدة في لبنان إلى خط الصراعات المذهبية، وخاصة أنه لا أحد يرغب فعلاً في القتال في لبنان، لا السنّة، ولا تيار المستقبل وشركات الأمن المقرّبة منه. ومن تحمس للحرب الأهلية لم يملك من المقاتلين ما يكفي ليحملوا البنادق الموضوعة في
تصرفهم.
كانت الاستخبارات الأردنية، التي شاركت بعمل حثيث ودؤوب في وضع بنك الأهداف للمخابرات الإسرائيلية قبيل حرب تموز وخلالها، كان لهذه الاستخبارات المستقرة في فنادق في منطقة الحمرا ببيروت ما تقوله، وما تنفذه، ولكن كان في أجندة القاعدة وقادتها أفكار أخرى عدا التقاتل العبثي مع الشيعة في لبنان.
لبنان بالنسبة إلى القاعدة ليس أرضاً ذات بعد مهم. القاعدة تعلم أن حجم البلاد وعدد السكان وتوزعهم الجغرافي والحدود، وعدد المرافئ والعلاقات الاجتماعية الداخلية والتنوع الثقافي ونمط الحياة، كلها عوامل لا تسمح لها بالعمل في لبنان، ولكن بقي لبنان بالنسبة إلى القاعدة ممراً وحديقة خلفية. والشيعة فيه ـــــ صدّق أو لا تصدّق ـــــ مقاتلون ضد عدو مشترك، وما يغريها في لبنان هو تحديداً ما أثبته الشيعة: قدرات عالية على تحقيق النصر.
وما دام المقاتلون الشيعة في حزب الله قد تمكّنوا من فعل ذلك، فما الضير في استخدام لبنان مقراً خلفياً؟
وفي حال الاشتباك يمكن دائماً ضرب إسرائيل، وتوريط كل الأطراف في نزاع مشترك. وصلت القاعدة إلى لبنان في حالة أقرب إلى الاستجمام، وكان مقاتلوها يشبهون المسافرين الذين يحطون في مطارات فاخرة ويبدأون بالتبضع يساراً ويميناً.
وفي مثال القاعدة، كان المجاهدون، عوض التبضّع، يتدربون على خبرات قتالية وأمنية.
كان ثمة من يطمح في الغرب، وفي لبنان، لأن يؤدي تمركز القاعدة في البلاد إلى توليد نسق إسلامي يكون امتداده الطبيعي سوريا، وبالتالي يمكن أن يستعيد تجربة عام 1981 حين انتفض الإسلاميون على النظام في سوريا، وسحقهم الأخير بالطائرات.
وتوافرت المعلومات في مراحل لاحقة، أي مع بدايات عام 2007، لتشير إلى أن القاعدة تحاول تجميع قواها في لبنان، إلا أن القوى الأمنية اللبنانية كانت أكثر انشغالاً بالهمّ السياسي اليومي، وملاحقة تفجيرات واغتيالات متنقلة، وربما ببساطة كانت بعيدة عن المتابعة، ففاتها ما فاتها من قراءة سياسية ومن متابعة
معلوماتية.
واصطدم مشروع جر «فتح الإسلام» إلى المعركة المذهبية بعقبتين: أولاهما رفض التنظيم بأغلب قادته وقواعده مواجهة الشيعة ممثلين بحزب الله الذي «يقاتل إسرائيل ويبلي البلاء الحسن في قتالها».
والعقبة الثانية كانت المنطلقات الإسلامية للتنظيم، واحتكامه إلى ضوابط للتكفير.
خلال المراحل الأخيرة من تشجيع سياسيين لبنانيين لـ«فتح الإسلام» على التدخل في السياسة المحلية اللبنانية، توصلت الكوادر الإسلامية اللبنانية ذات الصلة بالتنظيم إلى اقتناع بأنه بعيد عن التورط في الداخل المحلي، وفي صراعات شبيهة بتلك التي حصلت في العراق، وكانت الخلاصات النهائية بالفشل في الاستفادة من تنظيم «فتح الإسلام» قد بدأت تتأكد قبل أشهر من حرب نهر البارد.
وكانت حصة الأجهزة اللبنانية وتلك السعودية في التنظيم الجهادي قد تلاشت لمصلحة تماسك تنظيمي داخلي.
وصار من الواضح أن «فتح الإسلام» تحضر لعمليات ضد قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان، كما ضد عدد من السفارات العربية الخليجية والغربية. واشتعلت المعركة في
المخيم.
ونقتبس من روايات الناجين من حرب البارد على خطي الداخل المجاهد، والخارج النظامي والرسمي، شهادات تفيد بأن شاكر العبسي أبلغ شهاب قدور (أبو هريرة) بضرورة تجنب قوات الجيش اللبناني في لحظات الجنون الأولى حين كان المخيم لا يزال خارج دائرة الاشتباك، وأن من قاتل عناصر الجيش هو شهاب قدور
ومجموعاته.


استراتيجيا لبنانيّة

عقد العديد من الاجتماعات التحضيرية في الأشهر الأولى من عام 2007. كان ثمة في تنظيم القاعدة من يرسل وفوداً إلى لبنان لتجميع القوى تحت عنوان «فتح الإسلام».
ووضعت أجندة عمل لهذه القوى الجهادية تقضي بـ: تزخيم العمل ضد الأميركيين في العراق، العمل ضد قوات الطوارئ الدولية، ضرب عدد من السفارات العربية والغربية، توجيه ضربات لحلفاء للأميركيين في لبنان. إلا أن كل هذه الأهداف لم تعن للقاعدة كسر القرار الرئيسي بعدم تحويل لبنان إلى ساحة من ساحاتها، وكانت هذه الأهداف أقرب إلى «سيناريوات أسوأ الأحوال».
وتم حشد عدد من الكوادر اللبنانية، من خارج «فتح الإسلام»، ولكن هذه المرة حشدتهم استخبارات دولة خليجية لمصلحة دعم القوى الجهادية في لبنان، والانخراط في حركتها.
إلا أن عدداً من الأسماء اللبنانية، إضافة إلى خمسة من السعوديين كانوا أصحاب توجه مطلق في العداء للشيعة في لبنان، وهو ما يبدو أنه لم يناسب منطق «فتح الإسلام».