غسان رزقلنترك جانباً المنافسة الأقوى على الإعلام العام لمطالع القرن الـ21؛ أي مصارعة «السومو» المستعرة بين التلفزيون وشبكاته من جهة، وبين موجتين تصنعان راهناً الملامح الأولى فعلياً للإعلام الرقمي وهما مواقع تبادل الأشرطة على الإنترنت (وخصوصاً «يوتيوب» Youtube و«ماي سبايس» Myspace) ومواقع الإعلام الافتراضي مثل «سكند لايف». ثمة صراع آخر لافت، يدور يومياً داخل منازلنا عبر «الحروب الصغيرة» بين التلفزيون وأجهزة الألعاب الإلكترونية.
الحروب ستتصاعد هذه السنة مع الانطلاقة القوية لجهاز «اكس بوكس 360» في منطقتنا العربية. إنه «وي» الأداة الأكثر تطوراً بين منتجات شركة «نينتاندو»، وقد هزّت به عالم الألعاب الإلكترونية باعتمادها على مفهوم جديد يستند إلى مشاركة جسدية قوية للأصابع والأعين في السعي إلى الاستيلاء على الدماغ ونشواته وخيالاته. لا يزال جهاز «وي» بعيداً نسبياً عن الشرق الأوسط، بمعنى أن انتشاره محدود نسبياً، وخصوصاً في لبنان.
من الواضح أن سوق الألعاب الإلكترونية اللبناني والعربي ما زال أسير التنافس بين جهازي «بلاي ستايشن» الذي تصنعه شركة «سوني» اليابانية العملاقة من جهة؛ وجهاز «اكس بوكس 360» الذي تقف وراءه شركة مايكروسوفت العملاقة، وهي كبرى شركات نظم تشغيل الكومبيوتر عالمياً. ومن المستطاع إعطاء مثال ملموس على حدّة التنافس تجارياً بين شركات أجهزة الألعاب الإلكترونية. فقد تباهت «سوني» أخيراً بأن مبيعاتها من جهاز «بلاي ستايشن 3» تفوّقت للمرة الأولى على مبيعات جهاز «وي» الذي تصنعه منافستها «نينتاندو». وأرجعت ذلك إلى بعض المناورات اللوجستية في مجال التسويق، وخصوصاً خفضها سعر «بلاي ستايشن 3» من سعة 80 غيغابايت إلى أقل من 500 دولار، وكذلك خفض سعر نظيره من سعة 40 غيغابايت إلى 400 دولار. وأدى الأمر إلى ارتفاع مبيعات الجهاز الذي تصنعه «سوني» بنسبة 300 في المئة في الولايات المتحدة.
«وي» ما زال بعيداً عنا، إذاً لنعد إلى المنازلة التي يتصاعد غبارها يومياً في منازلنا بين التلفزيون، المدعوم بالفضائيات والكابل، وبين جهازي «اكس بوكس 360» و«بلاي ستايشن» للألعاب الإلكترونية.
ما الذي يُخيف التلفزيون من هذه الصناديق التي يغلب عليها اللون الأسود، والتي تحمل أجهزة الألعاب الإلكترونية الى أعيننا؟ الأرجح أنه يخاف خداعها. لقد تآلفت الشاشة الفضية مع «الجيل الأول» من تلك الألعاب، التي راجت تحت اسم «ألعاب الفيديو»، وربما كان جهاز الـ«أتاري» أكثرها شهرة. صار ذلك الاسم جزءاً من ذاكرة جيل. لماذا تُخيف أجهزة ألعاب الفيديو التلفزيون، الذي يقبض بقوة على تلك المساحة المُخصصة للترفيه البصري اليومي لناس القرن الـ21؟
لنأخذ مثالاً محسوساً، لنفتح علبة صندوق لعب «اكس بوكس 360». إنها تحتوي على جهاز تحكّم يدوي (من دون أسلاك، لأنه يتصل لاسلكياً بجهاز الألعاب) وصندوق لامع ملتف القوام للألعاب (طوله 30 سنتمراً وعرضه 7 سنتمترات)، وسمّاعتي صوت (من نوع «دولبي 5.1» الذي يعطي صوتاً مُجسّماً مثل صالات السينما الضخمة). ويمكن شراؤه مع شاشة خاصة به (اهتم صنّاعها بدقتها بحيث تظهر عليها الصور بوضوح كبير)، أو وصله بِشاشة التلفزيون. الأرجح أنّ ما يُخيف التلفزيون هو الخداع الترفيهي الكبير الذي يحمله هذا الجهاز. ومثلما يُخبئ الساحر أرانب ومناديل في قبعته، يخبئ «بلاي ستايشن» خدعه الكثيرة بدقة في ثنايا آلاته.
لقد التقط صنّاعه ملمحاً مُهماً في الترفيه البصري المُعاصر: تحوّل الترفيه إلى مواد رقمية.
أمسك صُنّاع «بلاي ستايشن» بفكرة مفادها أنّ الأفلام والموسيقى والألعاب وآلات التصوير والهواتف وشاشات التلفزيون كلها تصبح رقميّة، ما يغيّر علاقتنا بهذه الأدوات من جهة، والطريقة التي ترتبط فيها الأدوات الإلكترونية بعضها ببعض، وخصوصاً لجهة ميلها إلى الاندماج في نظام محمول، ما يُعرف باسم «التلاقي الرقمي». وعملوا على جعل جهاز الألعاب الإلكترونية مركزاً للترفيه الذي يصنعه «التلاقي الرقمي». وصنعوه بحيث يقدر على تشغيل الأسطوانات المُدمجة «سي دي» وأسطوانات الفيديو الرقمية «دي في دي». كما يستطيع أن يتعامل مع أجهزة الموسيقى الرقمية، فيحصل منها على الأغاني والموسيقى. ويمكن وصله بالكاميرات الرقمية المختلفة، بحيث يحصل منها على الصور وأشرطة الفيديو التي يصنعها المستهلكون بأنفسهم.
كما يقدر على الاتصال بالإنترنت، بما في ذلك إمكان إجراء مكالمات هاتفية دولية بواسطته. وفي سلسلة التنكر والخداع، يمكنه أن يعمل جهازَ تلفزيون أيضاً.
لنُعد تركيب المشهد الترفيهي لجهاز الألعاب الإلكترونية ثانيةً. لقد وصل إلى الركن الترفيهي في المنزل، متنكّراً في هيئة جهاز ألعاب مُخصّص للهو الأولاد والمراهقين في ساعات فراغهم، ثم تسلّل في كل اتجاه، وخاطب جهاز الموسيقى الرقمية، الذي يعدّ من عناوين الميل الفردي عند الأجيال الشابة، في الترفيه الصوتي. وأعلن أنه يستطيع أن يحل محل الراديو والتلفزيون والفيديو الرقمي.
ثم أضاف إلى كل ذلك إنه يستطيع أن يتصل بالإنترنت، حيث يؤدّي دوراً مزدوجاً: فيوزّع الألعاب على شلة الأصحاب، ويستولي على دور الكومبيوتر في البريد الإلكتروني وغرف الدردشة والمكالمات الهاتفية وغيرها من أشكال الاتصال الإلكتروني التي تقدمها الشبكة الدولية للكومبيوتر. لم يعد ضيفاً متواضعاً. التهم مهمات الشاشة الثالثة (الكومبيوتر) في الترفيه والاتصالات، إضافةً إلى تحالفه مع أداة الموسيقى الفردية. الأرجح أن خوف التلفزيون من هذا الجهاز ليس عبثياً، في سياق صراع الأجهزة الإلكترونية للاستيلاء على ذلك الركن الضيّق للمتعة اليومية بصرياً، حيث المتنفس الضئيل الباقي في عيش الأفراد للخروج من الدائرة الجهنمية من المعاناة اليومية للعيش القاسي في المجتمعات المُعاصرة. لقد خرج عملاق من قمقم الألعاب الإلكترونية ليمسك بالترفيه البصري الفردي والمنزلي، بالاعتماد على قدراته الرقمية.
من رحم الشاشة الثالثة وُلد هذا العملاق، فهل يستطيع أن يهزم الشاشة الثانية (التلفزيون)؟ وكيف يواجه «التعملق» المتصاعد للشاشة الرابعة (الخلوي)؟ لننتظر وَنَرَ... ولكننا لن ننتظر طويلاً.